موضوع الكتاب الموسوم “وثائق العقود المكتوبة على الرق في مغرب ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، الجزء الاول ” إخراج مجموعة من النصوص المصنفة رسوما عدلية، مكتوبة على رق الحيوان، تغطي مادتها الزمن الممتد من القرن 16م إلى القرن 19م. ويعيد فريق الباحثين اليابانيين بهذا الإنجاز والمشروع الاستشراق إلى زمنه الذهبي، لما كان يخرج النصوص الأمهات محققة ولا يكتفي بتقديم تراكيب معتمدة على دراسات جاهزة.
وتوجد أصول هذه الرسوم الصادرة في الكتاب، ومجموعة غيرها قيد الدراسة، بدار الكتب الشرقية في طوكيو. وتمتلك الدار رصيدا محترما من نفائس المخطوطات والمطبوعات النادرة. وتحفظ هذه الوثائق بعناية فائقة، بحيث خصصت لها درج ملائمة في قاعة “محصنة”، وتمت معالجتها من طرف متخصصين في علم ترميم الوثائق، وصورت في أوضاع مختلفة بأحدث التقنيات الرقمية، مما يسر قراءة أحرفها شبه المطموسة وبالتالي فهم أصعب معانيها المغلقة.
وتكمن أهمية الرسوم العدلية المكتوبة على الرق والصادرة في هذا المجموع في كونها تتضمن إفادات ثمينة عن العقار في المغرب ما بين القرنين الميلاديين 16 و19 لا نجد مثيلا لها حتى فيما هو متداول من حوالات حبسية ومجاميع الفتوى. ويتعلق الأمر برسوم عدلية كتبت على الجلد/الرق، موضوعها إقرار الموت والخلف (عدد الموتى والورثة)، والإراثة، والمتخلف، والوصاية والترشيد، وانتقال العقار بالشراء والبيع والشفعة…الخ.
وتتيح مضامين هذه الرسوم العدلية الإشهادية، في قراءة أولية لعينة محدودة، إمكانية التأمل في موضوع النخبة والثروة في مدينة فاس، من دون أن تجزم بخلاصات نهائية، لكونها تتطلب تراكما نوعيا للمصادر وتغطية للزمن في مداه الطويل وتشغيلا لمنهج المقارنة.
المنطق المتحكم في هذه الرسوم كما هو معروف هو نظام يدبر الحياة بالحفاظ على الحقوق وإدارة طرق تفويتها وانتقالها. وهو ما يعرف بعلم الفرائض أو المواريث. ومن المعلوم عند أهل هذه المعرفة وممارسيها ورعاتها أن القرآن الكريم لم يفصل في أحكام العبادات قدر تفصيله في هذه المنظومة الفقهية. وقد بلغ هذا العلم في المغرب درجة من القدسية والاعتبار جعلت رجاله في الوقت ومن لهم الصلة به يتداولون حديثا منسوبا للرسول يفيد أن أول علم يرفع إيذانا بقرب الساعة هو علم الفرائض. وفي التنويه والتقدير وعي بأن عدم تشغيل آليات علم الفرائض في الحالات التي تفرض ذلك يفضي إلى التنازع والتصادم والتقاتل بين البشر أي إلى الفتنة التي قد تذهب بالمال والإنسان.
تحدد الرسوم العدلية الواردة في الكتاب طبيعة المنقولات، التي يوجد معظمها في محيط جامع القرويين بفاس. وتتكون من حيث طبيعة العقار من جنانات وخربة واروى ودار الراعي ودار ابن حيون، ومن حيث نوعية النشاط الاقتصادي من معصرة وغرسة زيتون، ومن حيث الوضع القانوني من زينة وجزا وحبس.
وتحدد الرسوم هوية المالكين، ومعظمهم ينتمون إلى بيوتات فاسية كبرى ومشهورة. ويغلب فيها حضور المنحدرين من أصول عربية (الأنصاري)، وأندلسية (الأندلسي والمرسي والطليطلي) …الخ. وتشير أيضا إلى انتمائهم الروحي –المجتمعي، حيث تعدد منهم الشرفاء والمرابطين والصوفية وأصحاب الزوايا والقيمين على الضريح والحجاج والفقهاء والقراء والطلبة. كما تعين منهم مجموعة من الحرفيين المشتغلين في الصياغة والدباغة. ومن أهم إفادات الرسوم اشارتها إلى فئة التجار المالكين للعقار في مدينة فاس. ومما يستوقف الباحث عن نوادر المعلومات جملة جاء فيها عند الحديث عن أحد التجار الملاك سنة 961هـ/ 1554م: “غائب عن مدينة فاس ببلاد المشرق منذ عامين سلفت من تاريخه غيبة انقطاع واتصال”. وتفيد الإشارة إلى وجود علاقات مغربية متصلة بالمشرق لا يطبعها بالضرورة المطلب الروحي بل التجاري أيضا. ويندرج ضمن نفس الاستنتاج إفادة الرسوم بأن جماعة العدول الذين تولوا فريضة الإشهاد في العمليات التي توثقها ينتمون إلى بيوتات فاس الكبرى مثل الخزرجي والطليطلي. بل حتى الجماعة المكونة لشهادة اللفيف تنحدر من هذه البيوتات. وشهادة اللفيف تتضمن عددا من الأشخاص “من أهل المعرفة والبصر”، لا تتوفر فيهم شروط العدالة بالضرورة، ولكن حضورهم للإدلاء بالشهادة يحصل به العلم بالحيثيات على وجه التواتر لمعرفتهم بالوقائع والأخبار. وإذا أخدنا بعين الاعتبار أن من اللفيف ما يضم أربعين شاهدا، ندرك حجم الوضع الاجتماعي للبيوتات الكبرى وأدوارها في المدينة الحاضرة.
تشغل الرسوم العدلية آلية المواريث/الفرائض حتى تحافظ هذه البيوتات الكبرى بعينها على العقار-الثروة. ومن هذه الآلية تجميع مكونات العقار بعد التفرق عن طريق الشراء والمخارجة، وتوظيف “فرائض” الوصاية والولاية والترشيد، والتشديد على تمتع من له صلة بالعقار بـ “صحة العقل وثبات الذهن والميز والإدراك بحال الجواز والطوع” وإن كانت به علة، والحرص على تحقق شروط الترشيد. ومن هذا الحرص، كما جاء في رسم مؤرخ في سنة961هـ/1554م، أن المحجور المطالب بالترشيد والإطلاق من ثقاف الحجر الذي يلازمه ليتملك أمر نفسه وماله، لا ينال مبتغاه إلا لما يستوفي شرط الرشد في أحواله وحسن النظر لنفسه وماله ويصبح ممن لا يخدع في بيع وابتياع، أي لما يحقق شرط استحقاق الإطلاق من ثقاف الحجر الذي يلازمه.
وتلقي الرسوم العدلية الواردة في المجموع مزيدا من الضوء على مكانة المرأة الاجتماعية من خلال منظومة الإرث. وتقدم المرأة في مستويين: الأول مرتبة الحافظ للعقار عبر تشغيل آليتي الوصاية (مثلا العجوز حورية بنت إبراهيم الأندلسي الأنصاري) والمصاهرة. والثاني مرتبة المحجورة القاصر التي يفرض عليها المجتمع “الإيصاء التام المطلق، العام الجامع لفصول الإيصاءات النظرية كلها، المحيط بكافة معانيها بأسرها”، ويعطي الحق للوصي عليها بأن “جعل له إنكاحها قبل البلوغ وبعده بحكم الإجبار من غير كشف ولا استئمار”.
تكمن الغاية الفقهية من علم المواريث/الفرائض وممارسته، كما يتبين من الرسوم العدلية الواردة في المجموع، في تدبير الوسائل الكفيلة بتجنب ضياع الحقوق والحيلولة بالتالي دون التفريط في ثروة الأسرة/البيت/الجماعة. وتؤدي المرأة من هذا المنظور، وهي تمتلك نصيبا من الإرث، نفس وظيفة/دور المرأة المحرومة من الإرث في بعض بوادي المغرب وحواضره وفي الأزمنة ذاتها. ونفس الاستنتاج يمكن استخلاصه من آلية المصاهرة التي قد يفهم منها منح الأنثى نوعا من التعويض والتمتع.
قد نفهم من هذه القراءة أن البيوتات الكبرى في فاس الحاضرة هي التي كان لها في نهاية المطاف القدرة على إحياء الأرض وتشغيل المعصرة وغرس الزيتون وتعمير الخراب، وأن هذه القدرة مكنتها من امتلاك العقار بأثمنة زهيدة أو حتى من دون مقابل، والقدرة في هذا السياق تفيد سلطة الجاه القائم على تدبير المال وتدويره بل وحتى تحصيل منافعه من دون صرفه.
وقد مارس العدول والملاك في بعض العمليات التي وثقتها الرسوم حيلا فقهية لتدوير الثروة-العقار، حكمها الشرعي خلافي بين التحريم والتحليل. ومن ذلك ملاحظ تكرار عقد صفقات بيع عقارات يستردها أصحابها بعد أشهر معدودة وبنفس الثمن. والمستور في هذه الصفقات يكمن في كونها بيع “ثنيا”، وتتمثل في عقد اتفاق بين البائع والمشتري قبيل تفويت العقار، يفرض بموجبه البائع على المشتري حق استرجاع ما باعه إياه متى رد إليه الثمن الذي دفع له. وقد أحل جمهور المالكية هذا النوع من الصفقات في البداية، لكن ثمن البيع الأصلي أصبح في المغرب، منذ بدايات الزمن الحديث، مجرد سلف يقبضه الدائن بعد مدة يكون خلالها قد استفاد من كراء المبيع أو غلته، ويصير بالتالي سلفا جر نفعا/ربا، وحكمه التحريم المفسد للبيع. وقد مارس الملاك هذا التحايل برعاية من العدول، علما بأن جل الرسوم لا تخلو من التنصيص على أن العقود قد تمت “من دون شرط ولا ثنيا”! ومن الحيل الفقهية التي مارسها الملاك والعدول معا تمرير بيع “الشركة” مع وجود حق “الشفعة”، وتوثيق حالات يتبين منها المضاربة في العقار والتصرف في أصوله بيعا وشراء، والتستر عن امتلاك بعض من يدعي الزهد ثروة عقارية ومالية حسب تقديرات الوقت …الخ.