محمد حبيدة، أوروبا في القرن التاسع عشر، نابوليون، الرباط، دار أبي رقراق، 2021.
يعتبر القرن التاسع عشر عصر حداثة وانعطافة كبرى بامتياز، محمولة على بساط ثلاثي مهيكل، أحدث طفرة نوعية في حياة الإنسان الأوروبي، يتعلق الأمر بالحرية والعقل وتطور التقنية. مما أفرز إقلاعا شاملا تحكمت الطبقة البورجوازية في كثير من أزراره، بعد أن صاغ منظروها القواعد الناظمة لخباياه وأسراره. إذ قَعَّدَ آدام سميث عبر ثروة الأمم نمط اقتصادها الحديث، ثم تولى توماس روبرت مالتوس مهمة إضفاء الشرعية على تفاوتاته الاجتماعية بمبررات المتواليتين الحسابية والهندسية، ليأتي رد كارل ماركس في صيغتي البيان الشيوعي ورأس المال، كاشفا لشراسة هذه الماكينة الرأسمالية، منافحا عن ضحاياها.
صحيح أن القرن التاسع عشر بعد نابوليون بونابرت أنتج “ظاهرة لم يُسمع بها في تاريخ الحضارة الغربية، وأقصد سِلم المائة سنة (1815-1914)”، بيد أن هذا الأمر يُفهم في سياق “نظام توازن القوى الذي بقي لمدة قرن، وحال دون حدوث أي حرب مدمرة بين القوى العظمى”. وهو ما شكل الداعمة الرابعة لحضارة هذا القرن على المستوى الأوروبي، التي تكاملت مع معيار الذهب العالمي بثقله المرجعي في الاقتصاد العالمي، والتنظيم الذاتي المنبثق عن اقتصاد السوق الذي أفرز ازدهارا ماديا غير مسبوق، إلى جانب الدولة الليبرالية[1].
بين ثورة فرنسية أحدثت زلزالا سياسيا واجتماعيا وفكريا لم يقتصر صداه على فرنسا، بل طالت هزاته الارتدادية بلاطات مختلف المونارشيات والإمبراطوريات الأوروبية، وثورة صناعية احتضنتها بريطانيا قبل أن يمتد مداها وتداعياتها قاريا وكونيا، يفرض القرن التاسع عشر الممتد نفسه في هندسة التحقيب التاريخي العالمي، كقرن موسوم أوروبيا بميسم التحول النوعي الشامل. بيد أن أصداء هذا التحول الكبير، بلغة كارْل بُولانْيِي، ما لبثت أن وصلت بدرجات متفاوتة وطرق مختلفة إلى جهات مختلفة من العالم، في سياق عولمة متحكم فيه أوروبيا، حيث سعت القوى الكبرى بالقارة العجوز إلى تسخير مفاعيل هذا التطور الثلاثي في خدمة نزوعها الهيمني على حيز كبير من خارطة العالم، خاصة في آسيا وإفريقيا.
ذهب المؤرخون مذاهب شتى، في دراستهم لهذا الزخم التاريخي، واعتمدوا مناهج ومداخل للفهم والمعالجة تختلف باختلاف مدارسهم واتجاهاتهم الفكرية، والحصيلة تراكم معرفي مفيد ومنتج ومتنوع. ضمن هذا المنحى، وفي مسعى للقبض على ما ظل منفلتا عن الفهم في تاريخ أوروبا القرن التاسع عشر، خاصة الجوانب التي لم تحظ بالاهتمام المطلوب، اختار محمد حبيدة أن يرحل مع طلبته في سلك الإجازة بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة في سفر بيداغوجي وعلمي، من خلال تتبع مسار شخصية ملأ صاحبها الدنيا وشغل الناس في حياته وامتلك العالم بعد مماته، يتعلق الأمر بنابوليون بونابرت.
قد يبدو مسعى سبر أغوار تاريخ قارة كاملة خلال قرن من الزمن انطلاقا من تاريخ فرد، مهما علا شأنه، مستحيلا لمن اختزل تاريخ الأفراد في ما اقترحته المدرسة الوضعانية، أو حتى في المعالجة البيوغرافية الكلاسيكية، وقد يظهر للبعض أنه مغامرة قد تحجب رؤية كل ما هو أوروبي ظل بعيدا عن ساحة نابوليون في القرن التاسع عشر. غير أن الكتاب/ المحاضرات، يكشف عن إبداع نوعي مؤطر بشعار: “رجاءً لا تختزلوا نابوليون في البزة العسكرية والتدرج في أسلاك الجندية وساحات الوغى، إذ هو أكبر من ذلك بكثير، فتجربة هذا المتعدد بصيغة المفرد ثرية تستحق الكشف عن جوانبها الخفية”، ليُكْرِم الأستاذ الباحث طلابه في محطة أولى عن بعد، ثم قراءه في مرحلة لاحقة عبر آلية التأليف، بمنجز فريد في مضمونه مجدد في منهجه.
I – في معنى الدرس الجامعي
أن تخصص مطلع منجزك الفكري، الذي هو في الأصل دروس ومحاضرات، للتنبيه والتوضيح التالي: “هذا الكتاب في الأصل دروس عن» أوروبا في القرن التاسع عشر« ألقيت عن بعد في سياق وباء كورونا بجامعة ابن طفيل (إجازة التاريخ والحضارة) برسم السنة الجامعية 2020-2021″، فمعنى ذلك أنك آنست في العصارة النقية لمجهودك البيداغوجي زخما فكريا وحمولة معرفية تستحق أن تتقاسمها مع الجمهور الواسع من القراء. ولعمري إن هذا الأمر لا يستقيم إلا بالتفاعل الجدلي المثمر بين التجربة البيداغوجية والمسيرة العلمية، “حيث مراجع المشروع العلمي ومصادره تُغني المحاضرات، وأسئلة المحاضرات ونقاشاتها تفتح دروبا بحثية غير مُفكر فيها سابقا أو تعمق في تضاريسها أخاديد جديدة”[2]. ولعل الإهداء الوارد مباشرة بعد التوضيح يحمل الكثير من معاني هذه المعادلة المثمرة، إذ جاء كما يلي: “إلى طلبتي الذين تفاعلوا مع ما قدَّمته من محاضرات عن تاريخ أوروبا طيلة خمس وثلاثين سنة”. هو تفاعل منتج وراق بين أستاذ باحث شغوف بمهنته حريص على تقديم الأجود فيها، وبين طلاب متفاعلين بشكل مخصب للأفكار انطلاقا مما تولده أسئلتهم وملاحظاتهم من هواجس معرفية جديدة لدى أستاذهم في تجربة تجاوزت ثُلُثَ قرن. لذلك لا شك أن نباهة هؤلاء الطلاب ستقودهم إلى التقاط ثلاثة دروس أساسية على الأقل في مسار هذه التجربة التفاعلية الممتدة في الزمن:
- درس السياقات الشارحة
لعل قراءة هذا المنجز الفكري في سياق المشروع العلمي لمحمد حبيدة ستسمح باكتشاف ليس فقط السياق الظرفي المرتبط بإنتاجه بين مخاض المحاضرات وولادة الكتاب، ولا حتى السياق المتصل بسيرورة الاشتغال على تاريخ أوروبا تدريسا وتأليفا، باعتباره استمرارية لجني قطاف جرى تدشينه منذ سنة 2010[3] ، ولكن، وربما هذا هو الأهم، علاقته بقضايا المناهج والمدارس التاريخية، التي حظيت باهتمام خاص من طرف الباحث نفسه.
إن البحث في أي موضوع من أجل تدريسه يجعل الباحث ينتبه إلى كثير من التفاصيل، لأنه لا يبحث فيما يشغله من هواجس شخصية في البحث، ولكن يبحث عما يلبي الحاجات المعرفية والانتظارات الفكرية لطلابه، لذلك يلفي نفسه قد غاص، بشكل لا إرادي أحيانا، في السياقات وخاض في الامتدادات والتداعيات المرتبطة بمختلف الأحداث أو القضايا التي تشكل موضوع دروسه ومحاضراته. وبعد نقل هذا الزاد المعرفي إلى مدرجات أو حجرات الدرس تجري عملية التفاعل مع الطلاب، وتتولد أسئلة جديدة ومعها اهتمامات وانشغالات جديدة، فيتوازى العلمي والبيداغوجي، يتداخلان ويتقطاعان ويتكاملان، ويغذيان بعضهما البعض. ولنا أن نتصور هذا الورش حين يكون مجاله غابة كثيفة اسمها أوروبا من الفيودالية إلى الفترة المعاصرة، كم من مسالك بحثية سيجري نحتها في هذه الآجام الكثيفة، الشديدة الخصوبة، والبالغة الثراء والتنوع.
نتحدث عن عبور من الفيودالية إلى الفترة المعاصرة مرورا بالأنوار، بما يعينه من تتبع ورصد وتحليل لمختلف السياقات التي ظهرت فيها اتجاهات فكرية مختلفة، باجتهادات أصحابها وتضحياتهم، من عهد المقصلة الكنسيّة إلى عصر التتويج بجائزة نوبل. وحين يلج المؤرخ عوالم هذه الابتكارات العلمية والأطروحات الفكرية وما رافقها من تلاقح بين مختلف العلوم والمعارف، سيسهل عليه أن يفهم السياقات المفسرة للتراكمات الحاصلة ليس في حقله المعرفي فقط، بل في مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، فتصير مناهجها ومدارسها واتجاهاتها إحدى انشغالاته العلمية الأساسية. لذلك فكتاب أوروبا في القرن التاسع عشر، نابوليون، لا يشكل امتدادا لكتاب تاريخ أوروبا من الفيودالية إلى الأنوار، فقط، بل هما معا يشكلان المتن المعرفي المفسر للمنجز المنهجي لمحمد حبيدة[4]. هكذا نفهم لماذا سَلَسَ له موضوع المدارس التاريخية وانقاد له أمر المناهج والاجتهادات النظرية بكل يُسر، والأهم أنه حاز نسبا فكريا جعل بوصلته في البحث واضحة ومرجعيته في الإنتاج العلمي جلية؛ فلا هو سَمَدَ عن السياقات الشارحة، ولا سَدِرَ أمام التمايزات الحاصلة بين مختلف الاتجاهات الفكرية. ففْرانْسْوا فُورْيِه الذي استحضره في هذا الكتاب ليفكر معه الثورة الفرنسية في علاقتها بموضوعه[5]، هو نفسه فرانسوا فوريه الذي دشن بمقاله الموسوم بـ”التاريخ والإثنولوجيا”، عمله المعنون بـالكتابة التاريخية[6]، وهيجل الذي اهتم فرحا برؤية “نابوليون وهو يخرج من المدينة لتفقد الأحوال”[7]، تاركا مسودة كتابه فينومينولوجيا الروح وراءه تنتظر إرسالها للنشر عبر البريد، هو ذاته هيجل، أب فلسفة التاريخ، الذي قسا بعد ذلك على زميله، بجامعة برلين، المؤرخ الشاب ليوبولد فون رانكه، الذي تجرأ على الوقوف في وجه هيمنة التصور الفلسفي للتاريخ، واضعا أسس منهج جديد للمعرفة التاريخية، من وحي انشغالات وأدوات المؤرخ، اشتهر بالاتجاه الوضعاني[8].
- درس في جدوى التاريخ
استهل مارك بلوك كتابه/المرافعة دفاعا عن التاريخ أو صنعة المؤرخ بسؤال عميق الدلالة كثيف المعنى، يُسائل اهتمامات أهل الصنعة ممن استطابوا الركون إلى الماضي والإعراض عن قضايا الحاضر. وجاء الاستفهام حول جدوى التاريخ وموضوعه، على لسان طفل صغير موجه لأب مؤرخ، بصيغة واضحة وبسيطة تنشد الفهم: “هلا شرحت لي يا أبت إذن ما جدوى التاريخ؟”[9] ليتخذ من هذا السؤال منطلقه لإعادة توجيه البوصلة وتحديد الماهية والجدوى، واضعا الإنسان على سلم أوليات المؤرخ باعتباره موضوعا لبحثه. يدقق مارك بلوك أكثر ويستحضر مركزية مفهوم الزمن في عمل المؤرخ وهو يدرس التغيرات والتبدلات في أحوال الناس وطباعهم وذهنياتهم بل وحتى أجسادهم، قبل أن يفرد فصلا خاصا عنونه بـ” الماضي والحاضر”، وضع فيه خارطة طريق لسفر المؤرخ في الزمن ذهابا وإيابا بين الحاضر والماضي، باحثا أحيانا على متوازيات بينهما، لتقديم عناصر إجابة عما يشغل بال معاصريه[10].
لعل القضية التي استأثرت أكثر باهتمام وسائل الإعلام الأوروبية في الأيام الأخيرة، وتصدرت عناوينها، متقدمة على أنباء جائحة كورونا ومخلفاتها، تتمثل في سحب البساط من تحت أقدام فرنسا تجاريا وربما استراتيجيا، بعد أن فسخت أستراليا صفقة القرن معها لشراء الغواصات، لفائدة تحالف أنجلوسكسوني ثلاثي الأضلاع، يربط لندن بواشنطن وكانْبِيَرا. هل فهم هذا الموضوع الشائك والمعقد يحتاج إلى انفعال وجداني عبرت عنه الصحافة الفرنسية بعبارات من قبيل: “خرق الثقة” و”طعنة في الظهر”… أو إلى تأطيره ضمن فهم يستحضر البُعد العقلاني والبراغماتي المرتبط بالتوازنات الدولية وما يتحكم فيها، خاصة مع استحضار الذهنية البريطانية في تدبير هذه التوازنات تاريخيا. لننتبه إلى ما أورده محمد حبيدة في هذا الموضوع: “في واقع الأمر، يبدو تاريخ أوروبا، من الوجهة الماكرو-تاريخية، والجيو-سياسية تحديدا، ليس فقط في القرن التاسع عشر، بل منذ قرون خلت، وكأنه تاريخ الصراع بين منظور «الهيمنة» الذي جسدته أمم القارة، مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا، مع اختلاف السياقات بطبيعة الحال، ومنظور «التوازن» الذي اتبعته إنجلترا. هذا ما يظهر في مطلع القرن المذكور مع الصراع الفرنسي البريطاني. ففي الوقت الذي كانت تسعى فيه السياسة الفرنسية إلى الهيمنة منذ لويس الرابع عشر، كانت بريطانيا تشيّد سياستها الاستراتيجية على التوازن. كان البريطانيون، من موقعهم الجغرافي المنفصل عن باقي أوروبا ينظرون إلى القارة، «الكانتِينانْت»، بمنظورهم »البريتِيش» الرامي إلى بقاء هذه القارة متعددة لا موحدة، باعتبارها أسواق متنوعة لاقتصادها الليبرالي المؤسَّس على حرية التجارة. وهي السياسة التي ماتزال متبَعة إلى اليوم في ظل ما عُرف في السنين الأخيرة بسياسة «البرِيكْسِيت». ولذلك، لم يعمل نابوليون في محصلة كل ما جرى من أحداث إلى غاية 1815 إلا على تمديد هذه السياسة القارية، سياسة «الهيمنة»، التي كان قد اتبعها ملك فرنسا لويس الرابع عشر (ت 1715)، ومن قبله ملك إسبانيا فيليبِّي الثاني (ت 1598)، وهيتلر فيما بعد (ت1945)، والتي لم تنجح في نهاية المطاف”. )ص 17-18.(
أعتقد أن هذا الدرس مفيد جدا اليوم لفهم ما جرى من قبل المهتمين والمتتبعين، ولكن ربما سيفيد أكثر صناع القرار بمقرات الإليزيه وماتِينْيُون ولوكسمبورغ في إعادة النظر في فهم التوازنات الدولية الحالية، قبل أن تندحر بلادهم من مصاف الدول العظمى إلى خانة الدول المتوسطة.
- دَرْسُ الدرس
يقترح محمد حبيدة ثلاثة مداخل لفهم القرن التاسع عشر تتوزع بين الاجتماعي والصناعي والجيو-سياسي، ولأن المادة في أصلها دروس ومحاضرات، محكومة بقواعد بيداغوجية تروم التبسيط وتفادي التشعب، مثلما هي محددة بسقف زمني مضبوط، فقد آثر اعتماد أحد هذه المداخل، مع استحضار كثير من التقاطعات مع المدخلين الآخرين وأحيانا مداخل إضافية، تيسيرا للفهم. بيد أن المتأمل في زاوية المعالجة ستستوقفه ولا شك مسألة أعتبرها ليس فقط جوهرية، بل يمكن تسميتها بـ”دَرْس الدرس” في هذا الجانب المتعلق بمعنى الدرس الجامعي. إذ يبدو الأمر غير مقتصر فقط على اختيار مدخل جيو-سياسي بين مداخل أخرى متاحة لمعالجة تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر (اجتماعي- صناعي- فكري…)، وغير مرتبط فحسب بمركزية نابوليون، وتفرد شخصية هذا “الكورسيكي الصغير” القادم من أسفل، في تاريخ أوروبا القرن التاسع عشر، الذي لم يكتف بتغيير وجه بلده فرنسا فحسب، وهو الذي أزعج وأفزع المونارشيات والإمبراطوريات الأوروبية العريقة، بل يتجاوزهما إلى اختيار منهجي مُجَدد في المعالجة التاريخية، نجح في استثمار التميز والفرادة والثراء والاستثناء في الشخصية موضوع دراسته، ليجعل منها مدخلا لفهم ليس فقط التاريخ العام لبلدها ولا حتى لقارتها، بل ليسلط الضوء من خلال تتبع مساراتها وتقاطعاتها المتشعبة على سفوح ظليلة من تاريخ أوروبا القرن التاسع عشر، يتقاطع فيها العسكري بالإنساني والمعرفي بالقانوني[11].
لقد انطلق محمد حبيدة أولا من مسألة في غاية الأهمية، ويتعلق الأمر بتفكيك العلاقة بين نابوليون والثورة الفرنسية، هل تعلق الأمر بعلاقة هدم وتصفية أم علاقة بناء وإعطاء حياة جديدة؟ ومَنْ خدم مَنْ؟ ليوضح لطلابه ثم قرائه تلك العلاقة المنتجة بينهما؛ فما كان لهذا العريف Caporal)) في الجيش الفرنسي، الذي لم يكن يتقن اللغة الفرنسية في صغره، أن يصير جنرالا في الجيش الفرنسي وينتقل من الهامش (مدينة أجاكسيو بجزيرة كوريسكا) إلى المركز (باريس)، ويمسك المجد من أطرافه، بعد اعتلائه عرش أوروبا، لولا مبدأ المساواة الذي جادت به فلسفة الأنوار وكرسته مبادىء الثورة الفرنسية، التي أنهت عهد الميز والإقصاء بسبب الانتماءات الجغرافية أو الأصول الاجتماعية، فاسحة المجال لمغموري ونكرات الهامش ليصيروا مشاهير وأبطالا متوجين في مختلف المجالات.
وبالمقابل ظهر أن الثورة الفرنسية تعرضت للترنُّح والارتباك ليس بسبب خطر أكلها من الداخل من طرف أنصار النظام القديم، بعد أن شرعت في أكل أبنائها، بل الخطر الحقيقي الداهم كان قادما من الخارج في شكل دعم لأنصار سلالة البوربون أولا ثم عبر الحصار والحرب لوئدها ثانيا. فجاء نابوليون القائل (أنا ابن الثورة)، في سياق خاص ونوعي. أو بتعبير محمد حبيدة:” لقد جمع مجرى التاريخ بين الاثنين: الثورة، باعتبارها حدثا فكريا واجتماعيا وسياسيا، ونابوليون بوصفه فاعلا عسكريا وسياسيا”. لذلك لم يكن مستغربا أن يتم اعتباره بمثابة :”المُحرك الذي مَكّن من استمرارية روح الثورة في نهاية القرن الثامن عشر عقب مرحلة الفتن والقلاقل التي أعقبت ثورة 1789، وطيلة القرن التاسع عشر، مع استحضار شخصيته خلال الموجات الثورية المتلاحقة التي فعفعت النظام السياسي في فرنسا”، إذ شَكَّلَ النموذج الأمثل الذي جسد الاستجابة العملية لحاجة الثوار إلى “رجل عسكري يتمتع بالهيبة اللازمة لاستتباب الأمن”، إثر القلاقل التي أعقبت ثورة 1789. وهو الذي لم يتردد في مناصرة الثورة ميدانيا من أجاكسيو إلى باريس مرُورا بتُولُون، قبل أن يعكف سياسيا على تفعيل وأجرأة كثير من مطالبها ومبادئها، وإن كان قد ضحى بأحدها ممثلا في الحرية، في زمن الفتن والحاجة إلى الحزم. وبذلك يكون نابوليون قد أشرف عمليا على نقل الثورة الفرنسية من مرحلة الاندفاع الوجداني إلى فترة الفعل العقلاني، أو من طور الشعارات إلى وضع القواعد الناظمة لعمل المؤسسات.
أجاد محمد حبيدة فك كومة التعقيد التي تلف هذا الموضوع بمهارة بيداغوجية بديعة ومعالجة علمية رفيعة، جمعت بين العمق والتحليل والوضوح، مستحضرا استشهادات داعمة ومفسرة لما يريد إيصاله من معان وأفكار، قبل أن يسافر مع نابوليون في عوالم مختلفة جغرافيا تمتد من دفء الإسكندرية إلى صقيع موسكو، ومتراوحة عسكريا بين انتصارات وهزائم، ومتفاوتة فكريا بين فنون وآداب ومعارف إنسانية متنوعة تحضر فيها بصمة بونابرت بأشاكل متعددة.
هو درس بليغ في شكل تمرين عميق وأنيق رام اقتفاء أثر شخصية نابوليون بونابرت للإطلالة على تاريخ أوروبا القرن التاسع عشر، والنفاذ إلى الكثير من دهاليزه السفلية. هو نهج مبدع في المعالجة، متمرد على قواعد الوضعانية وأبعد ما يكون عن مجرد تابع لمُنظري الحوليات أو حتى التاريخ الجديد. منهج يستلهم التراكم الحاصل في انتاجات مختلف هذه المدارس، ويبصم على مقاربة تؤسِّس لما بعد هذه الاتجاهات كلها (Post…)، بعد أن ارتشف رحيقها المنهجي ليصنع منه شهدا معرفيا ينسجم وفهمه هو، ولا يشبه بالضرورة أحدا منها.
II – من الفعل التاريخي إلى رهان الذاكرة
بعد هزيمة صغرى حملت اسم “الطرف الأغر” إثر حرب ملاحية فرنسية بريطانية دارت رحاها بالجنوب الإسباني، آن لنابوليون أن يعتلي صهوة المجد الأوروبي، بعد إخضاعه لكل من إسبانيا والنمسا وهولندا، وهو الذي تمكن من الانتصار في ظرف ثلاث سنوات على ثلاث قوى أوروبية اعتبرت عظمى يومئذ، يتعلق الأمر بكل من النمسا وبروسيا وروسيا.
لم يتوقف طموح نابوليون عند هذا الحد، فخضوع أغلب الدول الأوروبية من إيطاليا إلى بولندا مرورا بإسبانيا وبلجيكا وهولندا والنمسا وألمانيا لسلطته، كان لابد أن يكتمل في نظره، باستسلام القيصر الإسكندر الأكبر لمشيئته في السيطرة على روسيا واستكمال مشروع الحصار والتطويق الأوروبي الشامل لبريطانيا، قصد إضعافها في أفق إخضاعها. غير أن مأساة نابوليون الرهيبة كانت على الأراضي الروسية زمن “حرب مجنونة”، عرف خلالها “جنرال الثلج والجليد” ميخائيل كوتوزوف، كيف يجعل المناخ دعامة ورافعة لتكتيكه العسكري، ليحصد شتاء روسيا القارس نصف جنود نابوليون سنة 1812.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى كما يقال، فقد جاءت الهزيمة الكبرى في واتِيرْلُو يوم 18 يونيو سنة 1815، لتعلن وصول خطط نابوليون الحربية إلى النفق المسدود، وتسدل الستار على منحنيات جولاته العسكرية بانتصاراتها وانكساراتها. ثم تبدأ سنوات المنفى والعزلة الكئيبة الرهيبة في جزيرة سانت هيلانة، ثالث ثلاث جُزر وشمت نتوءاتها تعابير مختلفة في ذاكرة ووجدان نابوليون بعد جزيرة كُورْسيكا حيث الولادة والنشأة، وجزيرة إلْبة بين كورسيكا وشواطئ إيطاليا، التي نُفي إليها أول مرة سنة 1814.
في جزيرة سانت هيلانة، جنوب المحيط الأطلسي بين أمريكا الجنوبية وأفريقيا، جرى التأكد أن لا سبيل للفرار واستئناف الحرب مجددا من قبل قائد عاش “حياة عاصفية، ومات في جو عاصفي… مات نابوليون في الغم، لكنه مات شامخا… مات نابوليون، لكن ظله الثوري بقي فاعلا في أوروبا وحتى في أمريكا…”. (ص100-101). ولأنه كذلك كان من الصعب أن يُشطب سريعا من الذاكرة، أو أن لا يُنصفه التاريخ، وهو الذي أبى إلا أن ينبعث مثل طائر فينيق من تحت رماده.
مات يوم الخامس من مايو سنة 1821، في منفى أهل السيف حيث طُعن في كبريائه، فتوسل إعادة الاعتبار في حضرة أهل القلم. أغمد السيف كرها وطوعا واستل ريشة التدوين، التي أراد بها تصحيح تلك الصورة التي رسمها له أعداؤه المنتشون بهزيمته، والتي ظهر فيها سفاحا مستمتعا بسفك الدماء، شبيها بنِيرُون الروماني.
تفاوت التفاعل في باريس مع نبأ وفاته بين تشفي الأعداء واستقبال بارد للخبر من طرف الكثيرين، ورهان المتعاطفين الذين ظلوا يمنون النفس بعودة مظفرة للثأر والخلاص، لكن وحدها مذكراته الضخمة (2000 صفحة)، التي أملاها على مساعده الوفي الكونت إيمانويل دي لاسْ كازْ Emmanuel De Las Cases في المنفى، والتي عمل هذا الأخير على نشرها سنة 1823، كانت كفيلة ليس فقط ببعثه من جديد بل بأن تحيطه بهالة من المجد، وتخلق منه شخصية أسطورية، حيث ارتبطت عظمة فرنسا أوروبيا باسمه. كيف لا وهو الذي حرص على جعل الأمم الأوروبية لا تظهر في هذه المذكرات معادية له شخصيا، بل حاقدة على فرنسا الثورة، متحالفة لإجهاض ثورتها. لذلك كان من الطبيعي أن يداعب حلم استعادة “عصر الإمبراطورية الذهبي”، الذي تضخمت فيه الذات الفرنسية وعلا شأنها، مخيال الفرنسيين مجددا، وعبرها يستمر حضور صانع مجد هذه الإمبراطورية في ذاكرتهم، كلما شهدت بلادهم أحداثا كبرى تستنفر شعورهم الجمعي طيلة زهاء قرن من الزمن بعد وفاته.
أعاد القلم تصويب البوصلة وأفلح في الدفع نحو إعادة قراءة وتأويل مشروع حامل السيف، الذي لم يكتف باستثارة الساسة والقادة فقط، بل وصل جَيَشان حياته العاصفة إلى الأديب والمؤرخ والفيلسوف.
- الأديب ينافح عن الحرية ضد القوة
لم يجد فيكتور هوغو أدنى حرج في مدح نابوليون بونابرت والإشادة بإنجازاته، التي أتاحت لفرنسا إمكانية تشكيل مشهد رائع بالنسبة للأمم مع مطلع القرن التاسع عشر، فصارت بفضله عظيمة ومهيمنة على أوروبا. غير أن هذا الموقف لم يمنعه من الإقرار بقيمة وأهمية معارضة أدباء آخرين للإمبراطور، شكلوا في نظره استثناء عن القاعدة، إذ يقول: “القارة بأكملها انحنت له إلا ستة شعراء…جون فرانسوا دوسيس، وجاك دُوليل، ومدام دوسْتايْل، وبنجامين كونستانت، وشاطوبريان، ولومِيرسْييه. ماذا تعني هذه المقاومة؟ وماذا تمثل هذه العقول التي تمردت في وجه عبقرية نابوليون، والتي أغاضها المجد وأغضبها البطل، وسط فرنسا التي شهدت النصر، والقوة، والسلطة، والإمبراطورية، والهيمنة، والعظمة، ووسط أوروبا وهي منبهرة ومهزومة، والتي، وقد صارت فرنسية تقريبا، شاركت هي نفسها في إشعاع فرنسا؟ لقد مثل هؤلاء الشعراء في أوروبا الشيء الوحيد الذي افتقرت إليه القارة، الاستقلال، والشيء الوحيد الذي افتقدته فرنسا، الحرية… ومع ذلك، دعونا نكرر القول، هذه المقاومة لم تكن شرعية فقط. لقد كانت مجيدة”. (ص128).
فهل تجد هاته المقاومة أو المعارضة التي أبداها هؤلاء الشعراء تفسيرها في النزوع الفطري للأدباء، بحسهم المرهف، نحو الحرية، التي شكلت الضلع الأول في ثالوث شعار الثورة الفرنسية، والتي رأوا أن الإمبراطور قد داسها بحذائه العسكري، بمبرر وأد الفتنة؟ أم المسألة أعقد من ذلك، وتفهم في ارتباطها بأنفة الأديب الذي أحس أن كبرياءه قد جُرح؟
يعترف له فيكتور هوغو بتوفره على “إحساس كبير بالشعر، ولذلك كان يعتني بالشعراء. ينبغي الاعتراف بذلك علنا”. (ص129). لكن لماذا الحزن والانزعاج من معارضة ثلة من الشعراء؟
يبدو أن الأمر العصي على الهضم يتجلى في كسر إرادة الإمبراطور في إلحاقهم بضحايا غزواته العسكرية ونزواته السلطوية. يوضح صاحب رواية البؤساء تعقيدات هذا النزال السيكولوجي بين الإمبراطور وثلة من الشعراء “الخوارج”، بالقول:” لم يكن يكفيه لجم المشاعر الشعبية، بل كان يود إخضاع بنجامين كونستانت، ولم يكن يكفيه الفوز على ثلاثين جيشا، بل كان يود النصر على لوميرسييه، لم يكن يكفيه غزو عشر ممالك، بل كان يود قهر شاطوبريان…”. (ص 129).
غير أن هذا الجفاء بين نابوليون وهذه القلة القليلة من الشعراء، لم يكن ليعني جحود هؤلاء بكل إنجازات الإمبراطور، رغم تحفظاتهم على جوانب معينة من أدائه، خاصة ما ارتبط منها بمسألة الحريات. فها هو شاطوبريان يسجل بامتعاض: “يستلزم الأمر شجاعة لتحمل صرخات العامة، ولكي لا يخاف المرء من أن يُنعت بالغباء والعجز عن فهم عبقرية نابوليون والشعور بها، لا لشيء سوى لأنه، في خضم الإعجاب الحي والحقيقي المعبَّر عنه، لا يمكن مع ذلك ذكر عيوبه. العالـم مِلْكٌ لنابوليون. ما لم يستطع هذا الرجل المدمِّر إخضاعه، انتزعته شهرته. شَغلَ العالـمَ وهو حي، وامتلكه وهو ميت”. (ص 125). قبل أن يعترف له:” بهذا الشأن يتفق القدامى، منهزمون ومنتصرون… بونابرت ليس عظيما البتة بأقواله وخطاباته وكتاباته، ولا بحبه للحريات التي لم يفلح فيها أبدا… بونابرت عظيمٌ لأنه أحدث حكومة نظامية وقوية، ومدونة من القوانين تبنتها دول عديدة، ومحاكم، ومدارس، وإدارة قوية وحيوية وذكية، والتي مازلنا نعيش عليها إلى اليوم… عظيمٌ لأنه أعاد النظام إلى فرنسا من جديد بعدما غرقت في الفوضى… عظيمٌ لأنه ملأ عشر سنوات بمثل هذه العجائب التي يصعب فهمها اليوم…”. (ص126).
أما لوميرسييه Népomucène Lemercier، صديق نابوليون عندما كان قنصلا أولا، فإنه عاد في الأيام الأخيرة من حياته ليحيي في قلبه الصامت والصارم، على حد تعبير فيكتور هوغو[12]، مشاعر التعاطف إزاء نابوليون. بعد أن تناهى إلى سمعه خجل إنجلترا مما فعلته بالإمبراطور في سانت هيلانة، وأنها ستعيد رفاته إلى فرنسا، فعاد به الخبر إلى نوستالجيا حالمة، أراد أن يستعيد من خلالها صديقه “القنصل الأول”. (ص 130). ويطوي، في لحظات احتضار، صفحة الجفاء السابق معه، التي أبان فيها عن فكر نقدي لاذع لأديب أصيل، برع في التنبؤ بنهاية لفائض القوة لدى الإمبراطور منذ سنة 1812.
- نابوليون يناشد المؤرخ لإنصافه
قضى جثمان نابوليون تسع عشرة سنة بتربة جزيرة سانت هيلانة، قبل أن يُنقل رفاته إلى فرنسا يوم 15 دجنبر 1840، ليدفن بمقبرة ليزانْفَلِيد Les invalides بباريس، “حيث أحيا الناس ذكره واسمه من جديد وحيث صار رمزا عظيما من رموز الأمة الفرنسية”. (ص101). بيد أن من نشأ على قراءة كتب التاريخ بوفرة، متأثرا بتاريخ الإغريق والرومان، ووجوهه البارزة أمثال الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر، وبتاريخ أوروبا خلال القرون الوسطى وخاصة بشخصية شارلمان، لم يكن ليقنع بالتحول إلى مجرد ذكرى جزء من مَزار، حتى ولو تعلق الأمر بمكان لذاكرة يحفظ جانبا من عظمة بلاده العسكرية.
لعل في تفرد شخصيته منذ الصغر ما يفسر قول أستاذه لمادة التاريخ: “هذا الشاب الكورسيكي الطبع والوطني المنزع قد يذهب بعيدا لو سمحت له الظروف بذلك”. (ص41). يعلق محمد حبيدة على هذا التكوين وهذا التنبؤ بالقول: “كان التاريخ حاضرا في تجربة نابوليون: الإسكندر الأكبر وتوسيع الحدود إلى أبعد مدى، القيصر وعظمة الدولة، شارلمان وطموح توحيد أوروبا. كل هذه التجارب، قرأها وفهِمها وتشبع بها. والأكثر من ذلك، جسدها على أرض الواقع”. (ص128). ولعل ذلك ما يفسر ما ذهب إليه فيكتور هوغو متحدثا عن نابوليون دائما: “كان يعلم جيدا تاريخيته، ولذلك كان يهتم بالتاريخ”. (ص128).
هذا الاهتمام بالتاريخ وهذا الإدراك العميق لتاريخيته، هو الذي جعله يخص التاريخ والمؤرخ بعناية خاصة في مذكراته، في ما يشبه الدعوة التي تأمل الاستجابة والنداء الذي يروم الإنصاف، والوصية التي تنتظر المُنفذ. ربما لأنه كان يعي أنه مهما فعل سينتهي به المطاف، بعد رحلة المنفى، إلى مختبر المؤرخ حتى لا أقول محكمته، فيصير موضوعا للدراسة والبحث وقد أصبح أثرا بعد عين. فالأمر لا يتعلق بشاعر عاصره، التقى به ثم تفرقت بهما السبل، بل بمن لن يحظى بفرصة الدفاع عن نفسه أمامه، والذي ستؤول إليه “وصيته”، ليحللها بهدوء بعيدا عن ضغط الإمبراطور وسلطته. لذلك حتى وهو يخاطب المؤرخ فإنه في الواقع كان يُفسر له ما كان من المفترض أن يشرحه للأدباء الناقمين عليه، إذ يقول:” فعلى أي أساس سيُهاجمُونني، وكيف للمؤرخ ألا يدافع عني؟.. قد يعاتبني على استبدادي، لكن ألم يكن هذا الاستبداد ضروريا؟ وقد يآخذني على تضييقي للحرية، لكنه سيقدم الدليل على أن الحرية المفرطة والفوضى والفتن كانت أيضا على الأبواب. وقد يتهمني بشغفي للحرب؟ لكنه سيُبيِّن أنني كنت دائما محط هجوم. وبأنني كنت أرغب في نظام حكم كوني”. (ص133).
وهو الذي بدأ خطابه للمؤرخ بلغة لا تخلو من استعلاء الأباطرة، مراهنا على نزاهة المؤرخ الفرنسي لإنصافه بالقول: “مهما يكن من أمر، لن يستطيع أحد حذفي أو بتري…سيكون من الصعب محو أثري نهائيا… سيكون المؤرخ الفرنسي مجبرا للحديث عن إمبراطوريتي. إذا كان نزيها سيمنحني المكانة التي أستحق، وعملية مثل هذه ليست بالعسيرة، لأن الوقائع تتكلم وتسطع سطوع الشمس. لقد تغلبتُ على الفوضى… وأنقذت الثورة وأعدتُ الاعتبار للشعب… وألهبت حماس كل أشكال التنافس، وكافأتُ كل من استحق المكافأة، ودفعتُ بحدود المجد إلى أبعد مدى! كل هذا يستحق الذكر!”. (ص133).
لينهي هذا الخطاب/ النداء بلغة تعانق فيها الوجداني بالعقلاني والتبرير بالتفسير، في مسعى الإقناع وطلب الإنصاف ورد الاعتبار، إذ كتب في هذا الشأن: “ومع ذلك، سيفهم بأن الأمر مجرد نتيجة لظروف عرضية، كون أن أعداءنا أنفسهم هم الذين دفعوني شيئا فشيئا إلى ذلك. وأخيرا ماذا عن طموحي؟ آه! من دون شك، سيجد هنا ما يقوله، وباستفاضة، لكن بعظَمةٍ ورُقي غير مسبوقين! لقد تجلى هذا الطموح في تثبيت وتكريس إمبراطورية العقل والممارسة الكاملة والاستمتاع التام بكل القدرات الإنسانية! وهنا، قد يجد المؤرخ نفسه مضطرا ليأسف على هذا الطموح الذي لم يكتمل ولم يكن مُرضيا!… باختصار هذا هو تاريخي..”. (ص134).
- الإمبراطور يثير إعجاب الفيلسوف
كتب الفيلسوف جورج فيلهلم فريدريك هيجل يوم 13 أكتوبر 1806 رسالة إلى صديقه الفيلسوف فريدريك إيمانويل نيتهامر، تحمل تخوفه من ضياع مخطوط كتابه فينومينولوجيا الروح، التي أرسلها عبر البريد عشية دخول قوات نابوليون بونابارت إلى مدينة “جِينا”. غير أن قلق الفيلسوف على ضياع مخطوط مؤلفه، وتتبعه لحالة الجزع والفزع التي انتابت ساكنة مدينته، لم يمنعاه من الحديث بإعجاب وانبهار عن نابوليون، حتى وهو يدخل بلاده غازيا. إذ يقول في الرسالة نفسها:” لقد رأيت الإمبراطور (نابوليون) وقد بدا كأنه روح العالم، رأيته خارجا من المدينة (مدينة جينا) يتفقد الأحوال. ياله من إحساس رائع حقا أن يرى المرءُ شخصا مثل نابوليون في مكان بعينه وهو على صهوة جواده، يسود على العالم. أن يحدُث كل هذا التقدم في العمليات من يوم الخميس إلى يوم الأحد، فهذا يعني أن وارء ذلك رجل فذ، لا يمكن إلا الإعجاب به. وكما سبق أن قلتُ، كل الناس يتمنون حظا سعيدا للجيش الفرنسي، إذ يتضح الفرق بجلاء بين ضباط نابوليون وآخر جندي في صفوفه من جهة، وخصومه البْروسيين…”. (ص112). فما الذي أدهش الفيلسوف وجعله يتمنى حظا سعيدا لمن أتى بلاده غازيا؟
بَرَعَ المؤرخ الألماني، المتخصص في العلاقات الفرنسية الألمانية، هاينز أوتو سيبورغ Heinz-Otto Sieburg في تكثيف ما التقطته فطنة فيلسوف الحداثة الحامل لمشروع يتجاوز الانفعال العاطفي مع الظرفي العابر، حتى ولو كان احتلالا لبلده، إلى التفاعل المثمر مع ما هو أعمق وأبقى وأقدر على إحداث تغيير في الواقع يُجسد عمليا ما رافع عنه نظريا؛ إذ يقول: “في «ظاهرة نابوليون»، أخضعت فرنسا الشعب الألماني من دون أن يشعر هذا الأخير بذلك على الفور. كان اعتزاز الألمان بأنفسهم، في مطلع القرن التاسع عشر، بالقياس إلى ثقافتهم الفنية والفكرية الراقية، قد جعلهم يشعرون بالتفوق على كل الأمم. كانوا على يقين بأنهم يمتلكون مناعة قوية، كون أن مملكة الفكر لا يمكن غزوها بالوسائل العسكرية. لم ينشأ الحس القومي الألماني إلا عقب هزيمة بْروسيا عام 1806. هذا ما عبر عنه يوهان هالير [في دراسة منشورة سنة 1930 تحت عنوان ألف عام من العلاقات الفرنسية الألمانية] بالقول: «في الأصل، فرنسا هي التي أيقظت الوعي القومي للألمان بالمعنى السياسي. اقتداءً بالفرنسيين، تعلمنا ما يعنيه الوطن والأمة في حياة الشعب. إننا ندين لهؤلاء بمثال الإدارة الحديثة التي تعلَمْتها المحافظات الألمانية الشائخة». لقد طوَّر القرن التأثيرات العميقة التي مارستها الثورة في كل مناحي الحياة، كما أبان عن نجاح محاولات الحقبة النابوليونية لنقل التيارات العقلانية والمساواتية النابعة من الثورة الفرنسية إلى ألمانيا”. (ص114-115).
وأبدع محمد حبيدة في تبسيط الفكرة لطلابه أولا ثم قرائه ثانيا، عبر تفكيك “الظاهرة النابوليونية” على هذا المستوى، بالقول: “كان الألمان، الذين عانوا من الشتات السياسي، معجبين بالدولة القومية الفرنسية وبعظمة هذه الدولة التي جسدها نابوليون. الألمان الذي عرفوا البروتستانتية مع لوثر، والتنوير مع كانط، وروائع الأدب مع غوته، ورقي الموسيقى مع بيتهوفن، لم يعرفوا الدولة القومية المُلتفَّة حول حاكم موحِّد وقوي. كانوا يعتقدون أن مملكة الفكر والفن أقوى من مملكة السلاح. غير أن الواقع أكد عكس ذلك. ويعبر هيجل تعبيرا واضحا عن هذا الأمر”. قبل أن يعيد تصوير مشهد الفيلسوف المنبهر بالإمبراطور بعدسة مؤرخ ورؤية مُفكر:” ماذا يمكن أن نستنتج من هذه الصورة التي رسمها هيجل؟ في ذلك اليوم، لم يكن على هيجل أن يقرأ الصحف كما كانت عادته، لأن الحدث التاريخي، ذلك الراهن المطلق في التاريخ، كان يجري أمام أعينه مباشرة. والأكثر من ذلك، رأى هيجل نابوليون وهو يخرج من المدينة لتفقد الأحوال، لكن نابوليون لم ير هيجل. كان هيجل يعرف ما يفعله نابوليون، في حين كان نابوليون يجهل ما كان يعرفه هيجل. ولذلك، كان نابوليون يحقق من حيث لا يدري فلسفة التاريخ الهيجلية”. (ص67).
في هذا المستوى من التحليل يكون المؤرخ قد أعرض عن نهج أسلوب السرد التاريخي الذي يُعنى بنقل أخبار الأمم السالفة، واتجه صوب توسيع جغرافية حقله المعرفي، سائرا على تخوم الفكر ليؤلف سمفونية معرفية على مقام الديالكتيك المنتج بين الفلسفة والتاريخ، ومقاس الفهم المجدد للبحث التاريخي.
————————————–
[1] كارل بولانيي، التحول الكبير، الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر، ترجمة محمد فاضل طباخ، المنظمة العربية للترجمة، ص 65-68.
[2] سبق أن نوَّهتُ بهذه التجربة عند الراحل عبد الرحمان المودن، التي كشفت عنها شهادات طلابه، واليوم يوفر هذا الكتاب لمحمد حبيدة نموذجا حيا لهذا النهج المنتج، حيث البيداغوجي والعلمي يتعالقان ويستمدان قوتهما من بعضهما البعض لتقديم درس جامعي رفيع ونحت مسار بحثي بديع. عن تجربة المودن المنوه بها انظر المقال على الرابط: https://www.hespress.com/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d9%8a%d9%82%d8%aa%d9%86%d8%b5-%d9%83%d9%86%d9%88%d8%b2%d8%a7-%d8%ab%d9%85%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d8%aa%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a4%d8%b1%d8%ae-840886.html
[3] أنظر: محمد حبيدة، تاريخ أوروبا، من الفيدالية إلى الأنوار، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2010.
[4] من أعماله في هذا الصدد على سبيل الذكر لا الحصر:
- كتابة التاريخ قراءات وتأويلات، دار أبي رقراق، الرباط، 2013.
- بؤس التاريخ، مراجعات ومقاربات، دار الأمان الرباط، 2015.
- الكتابة التاريخية، التاريخ والعلوم الاجتماعية، التاريخ والذاكرة-تاريخ العقليات، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2015.
- المدارس التاريخية، برلين-السوربون، استراسبورغ، من المنهج إلى التناهج، دار الأمان، الرباط، 2018.
[5]– François Furet, Penser la révolution française, Gallimard, Paris, 1978.
[6] محمد حبيدة، أوروبا في القرن التاسع عشر، ص 67. (عند إحالتنا على هذا الكتاب لاحقا سوف نكتفي بذكر الصفحات المعنية بالإحالة داخل متن هذا المقال).
[7] الكتابة التاريخية، التاريخ والعلوم الاجتماعية، التاريخ والذاكرة- تاريخ العقليات، ص 19.
[8] محمد حبيدة، المدارس التاريخية، برلين-السوربون، استراسبورغ، من المنهج إلى التناهج، ص 37.
[9]-Marc Bloch, Apologie pour l’Histoire ou métier d’Historien, édition critique préparée par Etienne Bloch, Armand Colin, Paris, 1993, p. 69.
[10]Ibid., pp. 83-98.
[11] سألتُ المؤرخ الفرنسي المهتم بتاريخ المغرب دنيال ريفي، قبل حوالي ربع قرن، حول كتابه “ليوطي ومؤسسة الحماية الفرنسية في المغرب 1912-1925″، هل يمكن القول أنك كتبت تاريخ ليوطي في المغرب أو تاريخ المغرب على عهد ليوطي، مع استحضار الفرق بين تاريخ الأفراد وتاريخ الأمم؟ فأجاب: “في الواقع عندما شرعت في هذا العمل لم يخطر ببالي مثل هذا السؤال، لكن كل ما أنا متأكد منه أن ليوطي كان منطلقي لكتابة تاريخ المغرب”. هنا أيضا كان نابوليون منطلقا وربما معبرا لدراسة الكثير من جوانب تاريخ أوروبا، هي ليست دراسة شاملة لتاريخ أوروبا بكل تأكيد، لكنها سلطت الضوء على جوانب مهمة منها، انطلاقا من تتبع مسار أحد الفاعلين الأساسيين فيها خلال مطلع القرن التاسع عشر.
[12] انتخب فيكتور هوغو بالأكاديمية الفرنسية ليأخذ مكان لوميرسييه سنة بعد وفاة هذا الأخير، وقد خصه بحيز وافر من التنويه والإشادة في الدرس الذي قدمه بهذه الأكاديمية بمناسبة استقباله بها يوم 5 ينويو 1841، انظر نص المحاضرة على الرابط:
https://www.academie-francaise.fr/discours-de-reception-de-victor-hugo
أعتقد أنها قراءة موفقة، غير أن القول بفاعلية طالب اليوم في إثمار موضوع ما ينقل من الدرس الى التأليف قول مشكوك فيه.