تابعت “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان” الحركة الاحتجاجية التي شهدتها مجموعة من المناطق المغربية ما بين نهاية سنة 2004 وصيف سنة 2008، وحاولت التدقيق في أحداثها وسياقاتها عبر مجهود خاص للجان التقصي التي شكلت لذلك.
تعد تقارير هذه اللجان المجموعة في الكتاب– الوثيقة1، موضوع هذه المائدة المستديرة، مادة مهمة تستدعي التحليل والمناقشة. فهل يتعلق الأمر بحركة اجتماعية بالرغم من تعدد فضاءاتها وتنوع مسبباتها؟ أم أننا أمام حركات احتجاجية متباينة لا يجمعها إلا الطابع الاحتجاجي ومظاهر العنف والعنف المضاد الذي يصاحبها؟ وهل هذه الحركات الاجتماعية أو الاحتجاجية جديدة بالنسبة لما عرفه المغرب إلى حدود بدايات التسعينيات من القرن الماضي؟
يبدو أننا فعلا أمام ظاهرة عميقة تؤشر على اتساع فضاءات الاحتجاج، إلا أن مقاربتها عبر زوج (قديم– جديد) قد لا يمكن من الإحاطة بكل دلالاتها الاجتماعية والسياسية، فضلا عن أن الماضي القريب للمغرب شهد مثلها. فأحداث يناير 1984 التي انفجرت في مناخ الغضب على الزيادات في أثمان المواد الغذائية الأساسية تكتسي نفس خصائص الأحداث التي دققت فيها لجان تقصي الحقائق، فما يميزها هو أنها جواب المجتمع على حالة إرتجاج وتحول غير متحكم فيه. كما أن هذه الاحتجاجات غير مؤطرة من لدن المنظمات النقابية والسياسية المتموقعة في الحقلين الاجتماعي والسياسي، فضلا عن أن هذه الحركات الإحتجاجية لا تستعمل قنوات الوساطة ولا أساليب التفاوض المعتمدة مع السلطات. فإذا كانت هناك بعض مظاهر الجدة فتكمن في حجم ووثيرة الأحداث التي تترتبت عنها، إذ يلاحظ منذ أواسط تسعينيات القرن العشرين نوع من تواتر الإحتجاجات وبعض الإمتداد في زمن وقوعها.
خلافا لما يعتقده بعض الفاعلين السياسيين2 فهذه الحركات الإحتجاجية لاتعكس “نهوضا إجتماعيا” بقدر ما هي انفجارات لشحنات غضب تراكمت على المدى الطويل، وجاءت كنتيجة لشعور بحيف مزمن، أو برد فعل غاضب على سيرورة إقصاء داخل مجتمع تتحكم فيه مختلف شبكات الزبونية في مسالك الترقي الإجتماعي، بالرغم من الخطابات المروجة وسط الدولة ووسط المجتمع والتي تستعمل لدرجة “الإسهال” تعابير من نوع “التباري الديموقراطي” و”تساوي الفرص”.
إذا تركنا مؤقتا أحداث سلا والقصر الكبير، فإن أحداث العيون وصفرو وسيدي إفني متشابهة بشكل كبير، ذلك أنها انطلقت من استبطان شعور بالحيف نجمت عنه أضرار يطالب المحتجون بجبرها. وما تلا ذلك مرتبط بحكامة التدبير وبمناخ الريبة والاحتياط من أساليب الاستدراج والوعود المعلقة التي خبرها المحتجون وعاينوها طوال عقود في سلوكات المنتخبين أو مسؤولي السلطة الترابية والأمنية.
أما أحداث سلا والقصر الكبير، فبالرغم من اختلافها الظاهر فإنها تعكس نفس الواقع، أي واقع التردد أمام العبور إلى مجتمع المواطنة ودولة الحق والقانون. فالحرية الفردية، إحدى ركائز المواطنة، هي القاسم المشترك بين أحداث سلا وأحداث القصر الكبير، مع فارق متمثل في الاعتداء عليها في سلا من لدن أجهزة أمنية تابعة للدولة، ومعتقدة أنها فوق القانون، وبإمكانها خرقه وتجاوزه ولو أدى ذلك إلى المس بحق الحياة… أما في القصر الكبير فالاعتداء على الحرية الشخصية تم بواسطة حشود لبشر تم شحنهم من لدن سلطة روحية دينية (إمامي مسجدين) ومنابر صحفية نصبت نفسها في شكل “محاكم تفتيش” باسم الدفاع عن “الأخلاق العامة”! فالقاسم المشترك هو استبطان المحتجين لخوف كبير أمام التحولات غير المتحكم فيها التي تعمل في عمق المجتمع جراء السياسات العمومية والاختيارات الكبرى للدولة في ظل تحولات دولية تفرض على المغرب سياقاتها وإكراهاتها.
لقد شهد المغرب سيرورة إندماج بطيئة ولم تكتمل بعد في اتجاه بناء الدولة والوطن (لكي لانقول الدولة-الأمة). فإن كان الانتقال من نظام سياسي مركزي لاتراتبي (حسب مقولة عبد الله العروي)3. إلى نظام دولة شديدة المركزية قد تم عموما، وشكل ذلك إحدى أهم نتائج المرحلة الاستعمارية، فإن تأسيس الوطن كتراب محسور بحدود معلومة، وككيان للانتماء والعيش المشترك قوي بمخيال جماعي وملحم بثقافة سائدة مستبطنة ومجسدة في منظومة قيم قارة، لم يقطع إلا بعض الخطوات بالرغم من معركة الحصول على الاستقلال ومعارك بناء الدولة الوطنية. وهذه الخطوات لم تصل إلى مرحلة اللاعودة، وهي منذ عقدين من الزمن مهددة بالانعكاسات السلبية لظاهرة العولمة التي يؤدي فعلها ليس فقط إلى اختراق الحدود الجغرافية والثقافية، بل إلى إضعاف وربما تفجير معظم الإطارات التضامنية ومنها الوطن والدولة. فالتحول من كيانات ما قبل حداثية من قبيل العشيرة والقبيلة والزاوية والأمة، إلى كيانات من نوع الدولة والمجتمع والوطن والحزب والنقابة والجمعية… إلخ، أصبح بحكم الاختيارات الكبرى للفاعلين والاقتحام العنيف من لدن العولمة4 لبنى وفضاءات المغرب، تحولا معاقا، ونتيجة لذلك ستسود في كل الحقول، ومنها الحقلين السياسي والاجتماعي ديناميات التباس (dynamique de l’amalgame)5 سيختلط في سياقاتها المحافظ والحداثي، المحلي والكوني، المدني والمقدس. وفي خضم القلق والخوف الذي يعتصر المجموعات البشرية، سواء كانت قطاعية أو إثنية أو جهوية، والتي تتمثل نفسها كمتضررة من التحولات الجارية غير المتحكم فيها، ينفجر الغضب المتراكم ويسلك غالبا لغرض التعبئة القصوى للاحتجاج والمطالبة بجبر الضرر، مسالك محافظة وأساليب تقليدية للتجنيد والتحميس، تلك التي تخاطب المخيال الجماعي وتستنفر الأنا الجمعية والثنائية المصاحبة لها: “نكون أو لا نكون”، فتصبح التضحية إستشهادا، والمبدئية رجولة؛ والفرقاء أعداء… هذا المنطق الثنائي المانوي لا يسود فقط وسط المحتجين بل أيضا وسط المحتج عليهم، وغالبا ما يبتدئ عند هؤلاء لخوفهم هم أيضا من سقوط الهبة المرتبطة بالسلط التي يمثلونها، والتي تتأسس شرعيتها غالبا على قوة الإكراه، لذلك لايطمئنون إلا للمعالجة الأمنية وما تستدعيه من “ثقافة” الإخضاع والتنكيل والتحقير والإنتقام.
إن الصعوبة الكبيرة في عمل منظمات حقوق الإنسان بالمغرب تكمن بالضبط في ضيق المساحة الزمنية للمنطق الثلاثي. وهو زمن الحوار، وزمن الإنصات، وزمن الشك في “القناعات القاتلة”، وزمن “لحظة الالتباس”… صحيح أنها لحظة عسر… وقد تكون أيضا لحظة ولادة، أو لحظة إثمار… إلا أن ذلك يستدعي معالجة دقيقة هادئة… وقد تطول… وهذا الذي لا يتوفر في لحظات الاحتجاج، فهي أصلا لحظات أزمة وتسارع ويتأسس فيها الفعل ليس على التفكير المتأني العقلاني، بل على الشعور المستبطن الوجداني.وبما أن المستبطن لازال في عمقه ومجمله محافظا، فإن ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان ليست واقعا معاشا بل مشروعا للانجاز يتطلب تكثيف جهود البؤر الصغيرة التي تحمل هذه الثقافة، والحركة الحقوقية إحداها، لخلق وتطوير حركة اجتماعية حداثية حاملة لثقافة المواطنة وفاعلة في كل فضاءات التنشئة بشكل مستمر ودائم حتى تحول الملقن إلى مستبطن.
يمكن إعادة قراءة كل الأحداث التي تضمنها الكتاب– الوثيقة على ضوء هذا التطور المعاق:
1) أحداث العيون (مايو 2005) تشعر مجموعات من الشباب الصحراوي وذويهم بنوع من الحيف والاقصاء من “المنافع” التي يتمتع بها جزء آخر من الصحراويين، ولرفع الضرر الناجم عن هذا الحيف يشرعن هؤلاء لأنفسهم حق الاحتجاج والضغط… ولو بالدعوة للانفصال خصوصا وأن المتمتعين بالامتيازات مارسوا سابقا الانفصال في صفوف البوليزاريو تطبيقا للتوجه الرسمي: “إن الوطن غفور رحيم”! مقابل هذا التموقف تعتبر السلطة محليا ووطنيا نفسها مؤتمنة على “مقدس من مقدسات البلاد” وهو الوحدة الترابية للمملكة، ولذلك تشرعن لنفسها استعمال القوة، ولو خارج القانون لأن المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار… ولو كان القانون نفسه… هذا المطلق كان يمارس ويصرح به من أعلى قمم الدولة إلى حدود بداية التسعينات، تاريخ بداية التفاعل الجزئي مع المقتضيات الدولية في مجال حقوق الإنسان (أنظر ديباجة دستور 1992)6، بعد ذلك استمرت الممارسة وعدل التبرير، وغالبا بشكل غير موفق. نوجد هنا أمام التباس بَينٍِ، إلا أن الفرقاء سرعان ما ينتقلون إلى نقطة اللاعودة عبر شد الحبل، وإجهاض محاولات الحوار والانخراط بسرعة في سلك الثنائيات القاتلة: (وطني إنفصالي) (تحرير إحتلال) (ديموقراطي ديكتاتوري)… إلخ، ويتعقد الأمر ويوحي بأن لا حل للإشكال إلا عبر الاختيار بين “الوحدة والتحكم” أو “الانفصال والتحرر”، ولا تسلك طريق “الوحدة والديموقراطية”.
2) أحداث الحسيمة (أبريل/مايو 2005) يستبطن “أهل الحسيمة”، كأهل الشمال المغربي عموما، شعورا عميقا بالاقصاء والتهميش. ولقد نشأ هذا الشعور وتطور منذ استقرار الحمايتين بالمغرب وحصول تفاوت بين الاستغلال الفرنسي والاستغلال الإسباني للمغرب. فلأن الرأسمالية الإسبانية لم تكن بعد، في النصف الأول من القرن العشرين، قد استنفذت كل فرص الاستثمار والإنعاش في المجال الإسباني، فإنها، عكس غريمتها الفرنسية، لم تنخرط في مشاريع كبرى لتهيئة مجال المنطقة الشمالية التي آلت إليها، وبالتالي لم تخلق رواجا مهما، ولا نشاطا اقتصاديا كافيا يدخل ساكنة المنطقة في ديناميات إنتاج عصري7. فترتب عند بعض النخب نوع من الشعور “بالغبن” مقارنة مع منطقة النفوذ الفرنسي، لدرجة أن محمد بن عبد الكريم الخطابي قبل دخوله في المواجهة مع المستعمر، كان يؤاخذ (حسب أعمال جرمان عياش) على الإسبان تماطلهم في الاستثمار المنتج وفي استغلال المعادن وشق الطرق وبناء السكة الحديدية8… إلخ.
وتضاعف هذا الشعور منذ استقلال المغرب، والأحداث التي شهدها الشمال ما بين 1956 و 1959 وما صاحبها من عنف مادي وثقافي وصل لدرجة مسح بعض رموز الشمال من الذاكرة الجماعية للمغاربة… هكذا تركز في المخيال العام “لأهل الشمال” شعور ليس فقط أنهم الجزء المهم من “المغرب غير النافع” بل هم أيضا “المغضوب عليهم”. هذا الشعور الدفين هو الذي يستيقظ كلما أدى تطور الأحداث والطوارئ إلى تشكل حالة أزمة، وقتئذ يتراكب الظرفي مع البنيوي، والظاهر مع المستبطن، فيتم التعامل مع حالة الأزمة، كحالة قصوى لا تستسيغ إلا المنطق الثنائي (المانوي). فأحداث أبريل/مايو بالحسيمة عموما، وبمنطقة تاماسينت خصوصا، التي انطلقت على إثر الزلزال الذي أصاب المنطقة، نموذج حي على هذا التراكب. فالحق في الحياة والذي يتجسد في ظرفية الزلزال في الحق في الإغاثة السريعة، والحق في تضامن الوطن، والحق في السكن اللائق والأمن، اصطدم باختلالات الإدارة المغربية، بتفشي الزبونية والمحسوبية، و”بعجرفة” السلطة الترابية وتجاوزات قوى الأمن والجيش. هكذا لن تصمد طويلا الأشكال الحداثية (الحضارية) لمعالجة الأزمة، من قبيل التجمهر السلمي والتدبير المشترك لتداعيات وضع ما بعد الزلزال، أمام الأشكال التقليدية (المحافظة) التي يتحول عبرها الاحتجاج إلى انتفاض والمطالبة بجبر ضرر إلى إحداث أضرار أخرى، والتدبير المشترك على قاعدة الانصات والحوار، إلى معركة لشرعيات متناحرة تنتهي عادة “بتركيع” الطرف الأضعف لأنه أعزل أمام قوة وسلاح الدولة، لتهيمن أكثر على المجتمع، ولتستعد أكثر لتأطيره الأمني، بل حتى لعسكرته مُشَرْعِنَة ذلك بخطاب “الحفاظ على الأمن العام” فتضيع هنا أيضا “لحظة الالتباس”، وتضيق المساحة الزمنية للمنطق الثلاثي، ويتحول الاحتكام إلى القانون وسيادة رابطة القانون، إلى حلم تحمله الحركات الحقوقية ومنظماتها التي تتحول بحكم الواقع إلى شاهد على فرص ضائعة وتيه جماعي. فتستبطن اللحظة من لدن كل الفرقاء كلحظة مرارة تغذي بسلبيتها كل المسبقات المستبطنة سلفا.
3) أحداث صفرو وسلا وسيدي إفني لا تختلف عن سابقاتها، ففي الأصل هناك شعور بحيف، وغضب على غبن أو إقصاء تراكم على المدى الطويل: فتدهور القوة الشرائية جراء ارتفاع مهول لأثمان المواد الأساسية (حالة صفرو) يحيي الشعور بانعدام العدل في توزيع الثروة الوطنية، وبالاستقرار الدائم في “خانة” المطالبين دائما بالتضحية وبشد الأحزمة على البطون، وبالارتجاف بهدوء من البرد القارس، والاستئناس الوديع بالظلمة، بينما الآخرون دائما في “خانة” ذوي الامتياز الذين هم في منأى من الغلاء والبرد والحر وحالة السلم وحالة الحرب، فرخاؤهم مضمون مهما كانت نسبة نمو الدخل الوطني، أو أسعار النفط، أو قيمة الدولار، أو تكاليف المجهود الوطني “لحماية الوحدة الترابية”! هذا الاستحضار لما تراكم لدى المحتجين على المدى الطويل يتزامن مع استحضار آخر لممثلي السلطة ولوحدات قوى الأمن، يجعلهم لا يتمثلون التجمهر إلا كخطر محدق وكفوضى عارمة، والمطالبة بحق لا تفهم من طرفهم إلا كتطاول و”كدْسارة” وتنطع وجب الإسراع بكسر شوكتهما!
إن تحول حالة الأزمة إلى حالة قصوى هو المشترك بين كل هذه الأحداث، وفي سياق هذا التحول تضيق مساحة القانون وتتوارى ثقافة حقوق الإنسان. فالحق في المعاملة المواطنة وسيادة مبدأ البراءة إلى أن تتم الإدانة قضائيا (حالة سلا) والحق في الشغل وولوجه في حالة انحسار العرض على قاعدة الكفاءة والاستحقاق (حالة سيدي إفني)، اصطدم بالممارسات السياسية والاجتماعية السائدة المؤسسة على “ثقافة الإسعاف” (l’assistanat) وعلى مركزية شبكات الزبونية في نظام الحركية الاجتماعية (mobilité sociale)9.
من الملفت للنظر أن المحتجين في أحداث سيدي إفني لم يرفعوا مطالبهم الخمسة للسلطات المغربية فقط، بل بالتوازي مع ذلك رفعوا مطالب أخرى، عرفت بالمطالب الثلاثة عشر (13) للدولة الإسبانية و”تنتظم حسب تقرير لجنة التقصي، في جزء منها حول موضوع الجنسية”!، وهذا مستجد فعلي يذكر بحركة “الحكرة” في منطقة بوعرفة حيث هدد المحتجون على التهميش والإقصاء النزوح الجماعي إلى الجزائر! عندما يصل الشعور بالغبن إلى هذا المستوى من المرارة والمضض فإنه ينتج غربة عن الوطن الذي يتحول إلى قيمة مجردة غير ملموسة، والحديث عنه إلى “لغة خشبية” لا تستدعي في أحسن الأحوال إلا الريبة خوفا من التسويف والإستدراج.
4) أحداث القصر الكبير (نونبر 2007) كما أسلفنا، لا تشكل أحداث القصر الكبير حالة خاصة، بالرغم من عناصر التمييز. فالضرر المطالب بجبره لم يمس مصلحة مادية ملموسة بل بنية ثقافية محافظة مؤسسة على سيادة الجماعة على الفرد وعلى القولة “ما يخرج من الجماعة غير الشيطان” والشيطان وجب رجمه … ولعنه … و… إقصاؤه من “الجماعة حتى لا يدنسها”، وفعل الشيطان منكر، و “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك “أضعف الإيمان”. وإذا وجدت هناك سلطة روحية تستنهض المؤمنين حتى لا يحشروا في خانة “أضعف الإيمان” فإن الفعل باليد يصبح شرعيا ومشروعا خصوصا وأن بعض المنابر الصحفية تموقعت في خانة “تغيير المنكر باللسان”! في هذه “الواقعة” تؤشر الأحداث على اقتحام المستبطن المحافظ لكل فضاءات المجتمع الراهن الذي تصفه الخطابات الرائجة والمروجة “بالمجتمع الحداثي، المتضامن والمتسامح”، “مجتمع الوسطية والمواطنة”، “مجتمع التنمية البشرية” إلى آخر المقولات التي تجتهد في إدراج المجتمع المغربي ضمن “المجتمعات العصرية المنخرطة بدون تردد في سيرورة الانتقال الديموقراطي”. لقد هزت أحداث القصر الكبير الكراسي الوثيرة للبرلمان، وأربكت الخطاب الحقوقي لجمعيات حقوق الإنسان، ونقابات المحامين ووسعت من عرض وطول منشيطات الصحف اليومية والأسبوعية، وأَخْرَست ألسن وأقلام المثقفين أو من يتمثلون أنفسهم كذلك. فالنموذج المجتمعي الذي تحركت الحشود في القصر الكبير للدفاع عنه لاعتقادها أنه في خطر، نموذج محافظ تقليداناوي وليس تقليدي، بمعنى أنه تصور إيديولوجي غير مطابق حتى لتقليد تاريخي ثابت. فما تم الاحتجاج عليه (ليلة كناوية) ممارسة من صلب التراث المغربي، إلا أن الأساسي في نظرنا لا يكمن في هذا الجدل، بل في التردد العام أمام “ثقافة المواطنة” المؤسسة على فصل الفضاء العام عن الفضاء الخاص و اعتبار أن الأول محكوم برابطة القانون المبلور من لدن المؤسسات المدنية، المنبثقة من الشعب عبر الانتداب الديموقراطي… واعتبار الثاني، أي الفضاء الخاص مجال ممارسة الحرية الفردية… فبالرغم من الإسهاب في الحديث عن العصرنة والتحديث والحداثة، فإن معظم الأنتلجنسيات المغربية تعاني من اضطراب اتجاه الفردانية (l’individualisme)، ليس كدينامية اجتماعية إذ هي سارية في عمق المجتمع، بل كوعي بواقع، كما أن الاضطراب يمس مبدأ الفصل، سواء تعلق بالفصل بين العام والخاص أو الدولة والدين، أو الحقول الثقافية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، العلمية… إلخ هذا الاضطراب عام، ويعم كل الأوساط حتى المنخرطة منها بشكل متقدم في السيرورات الفاعلة في عالم اليوم كالأنتلجنسيات الاقتصادية أو الأنتلجنسيات الجامعية10.
فعالم الاقتصاد كعالم المعرفة يرجحان كفة الكوني على كفة المحلي، ومع ذلك فالحقل الاقتصادي والحقل العلمي لا يتمتعان باستقلال نسبي عن الحقل السياسي والحقل الثقافي، ولا يسلمان من تدخلات، بعضها حاسم، للشبكات الزبونية وشبكات السلطة السياسية (تجارب الكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب حول المقاولة المواطنة، وتجارب إصلاح منظومة التربية والتكوين). فأحداث القصر الكبير، مثلها مثل أحداث هواة موسيقى الهاردروك (الشيطانية) أو أحداث حركة “مالي” (نية الإفطار العلني) ليست إلا لحظات تكثيف الخوف الجماعي من الانتقال إلى مجتمع المواطنة، لدرجة أن عبارة “الانتقال الديموقراطي” التي تؤثث خطابات كل الأنتلجنسيات تركز التردد والغموض حين لا تفصح عن الانتقال من ماذا إلى ماذا؟
تؤشر هذه الحركات الإحتجاجية عبر أشكال تنظيمها وأساليب تعبيرها، عن جانب من جوانب “التحول المعاق” الذي تحدثنا عنه سابقا، ذلك أنها نشأت وتجسدت خارج الإطارات التي كانت سابقا تحتضن وتقود الفعل الاجتماعي الاحتجاجي، أي المركزيات النقابية والأحزاب السياسية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى تميز المغرب في إطار استمرار التداخل العضوي بين الحقول، وتلك سمة المجتمعات ما قبل حداثية، بسيادة الحقل السياسي على الحقل الاجتماعي، ولذلك تميزت الحركات الاجتماعية المغربية الحضرية بما فيها الحركة النقابية بارتباطها العضوي بالحركات السياسية، وبسيادة هذه الأخيرة عليها، وظل هذا المعطى البنيوي سائدا حتى بعد استقلال المغرب. ولم نشهد بداية لسيرورة فك الارتباط إلا أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وجاء ذلك كنتيجة لبداية تعارض بين المنطقين اللذين سادا داخل الحقل السياسي وداخل الحقل الاجتماعي. فبينما اتجه الفرقاء وسط الحقل السياسي إلى منطق التوافق بحثا عن تجاوز إيجابي “للأزمة المركبة” التي استقر فيها المغرب منذ الثمانينات، نتيجة التحولات العميقة التي مست البنى الاقتصادية والاجتماعية، والتي انعكست بقوة على مجال العيش والانتاج، فتوسع المجال الحضري، واتجهت الأسرة نحو النووية، وامتدت فضاءات التمدرس، وتقلصت فرص الشغل، واختنقت مسالك (الدينامية) الحركية الاجتماعية … فرضت (هذه التحولات) داخل الحقل الاجتماعي منطق المطالبة بشروط عيش كريمة. هكذا اصطدم المنطقان، لأن الأول يستدعي نوعا من “الهدنة الاجتماعية” بينما الثاني لا يستقيم إلا مع “تعبئة حاشدة وضاغطة”.
وكان “الحقل النقابي” ميدان التصادم لأنه المجسد في بنياته وأطره للتداخل العضوي، لذلك لن يصمد كثيرا أمام الجذب والجذب المضاد، واستقر، تبعا لذلك في قلق لازال فاعلا لحد اليوم، لأن سيرورة فك الارتباط لم تنطلق بوعي ضرورة الفصل كتوجه خاص، ضمن توجه عام نحو مجتمع المواطنة، وبالتالي الانتقال الواعي من “النقابة الحزبية” إلى “النقابة المستقلة”، بل جاءت كمواجهة بين “المؤسسات” النقابية المنضبطة والمسايرة للقيادات الحزبية، و”القواعد” المنخرطة في ديناميات مطلبية، قطاعية أو جهوية أو فئوية، لا تحتمل في نظرها التأجيل، أو رهنها بتحولات سياسية محتملة. تراكب هذا الصدام وسط الحقل النقابي، مع واقع إحباط داخل الحقل الحزبي، حيث أن مجموعة من الأطر فقدت الأمل في نجاح مساعي “الدمقرطة الداخلية” مما كان سيفتح المجال للتداول على المسؤوليات الحزبية، ويئست من وصول السيرورة البطيئة والمتعثرة التي يعرفها الحقل الحزبي في مجال مسطرة الانتداب وتشكيل القيادات، إلى محطتها النهائية أي تعويض “الشرعية التاريخية” “بالشرعية الديموقراطية”. أدى هذا التراكب إلى انتقال مجموعة لا بأس بها من الفاعلين السياسيين والنقابيين من مجالات نشاطها التقليدي إلى الفضاء الجمعوي، الذي عرف توسعا ملحوظا، والذي نعت تجاوزا “بالمجتمع المدني”… وفي بعض ثنايا هذا الفضاء “الجديد” نمت الاحتجاجات التي عاينتها لجان التقصي التي شكلتها “المنظمة المغربية لحقوق الإنسان” وفي هذا الفضاء “الجديد” انبثقت أشكال جديدة للتجمهر والتعبئة والاحتجاج، من الاعتصامات بالساحة العمومية أمام بنايات المؤسسات المنتخبة، كالبرلمان بالرباط أو الجماعات المحلية بجهات أخرى، وأمام الولايات والعمالات، كما حدث في صفرو، ويحدث بشكل مسترسل ومتواتر أمام ولاية الدار البيضاء الكبرى (مرتين في الأسبوع تقريبا ما بين 2003 و2005) وفي هذا الفضاء الجديد برزت بنيات تأطيرية مغايرة للمركزيات النقابية التي كانت تقود الفعل الاجتماعي الاحتجاجي، ومنها الجمعيات الفئوية (حملة الشواهد المعطلين، حملة الدكتوراه الفرنسية، سكان الحي الصفيحي كذا…، المُسَرًحُون من شركة كذا، المتضررون من تفويت تدبير جمع النفايات، أو حراس السيارات، أو المجازر البلدية … إلخ) ومنها خصوصا “التنسيقيات المحلية لمحاربة غلاء الأسعار” التي اقتحمت بقوة الفضاء التقليدي للمركزيات النقابية، والتي دخلت مع هذه الأخيرة في معركة فعلية حول شرعية تمثيل الاحتجاج على تدهور القوة الشرائية، وما يترتب عن ذلك من إضعاف متبادل، ومن كسور لا تجبر، وإذا جبرت، لا تجبر إلا بشكل مشوه … فلا ينتج في هذا الوضع المتميز باتجاه فضاءات الاحتجاج نحو التوسع جراء اختناق الاختيارات الاقتصادية الكبرى للدولة وهامشية وقع “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، إلا تبعثر الفعل الإجتماعي بالرغم من نموه الكمي11.
عود على بدء، ما الثابت وما المتغير؟ إن الثابت هو تحول حالة الأزمة إلى حالة قصوى، وهذا الطابع في الاحتجاج المغربي قد يجمع في المدى الطويل بين “السيبة” كإحتجاج في الوسط القروي والاحتجاجات الحضرية “العصرية” التي انطلقت، في نظرنا، كإحدى ردود الفعل على “صدمة الحداثة” و”الانكسار الكبير” الذي أحدثته في مختلف البنى المغربية والذي لم يجبر لحد الآن، ويعد انتفاض الدباغين بفاس أو ما يعرف لدى المؤرخين “بعيطة بالمدني بنيس” إحدى مؤشراتها الأولى. أما المتغير فهو ما يميز من جهة “السيبة” عن الاحتجاجات الحضرية إلى حدود بداية التسعينيات، ومن جهة ثانية ما يميز هذه الأخيرة عن احتجاجات العقد الأخير، أي احتجاجات المرحلة التي انطلقت مع ما سمي “بالتناوب التوافقي”.
فاحتجاجات “السيبة” عموما كانت تقوم كرد فعل على اختلالات النظام المخزني القائم، ولم تكن تندرج في سياق إلغائه وتعويضه، بل كانت تهدف إلى إعادة التوازن له ومعالجة اختلالاته، بينما الاحتجاجات الحضرية إلى حدود العقد التاسع للقرن العشرين كانت تندرج ضمن توجه عام بمنطوق (mouvance) كان يهدف إلى إحداث قطيعة مع المنظومة المحافظة ككل سواء في تعبيراتها السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية، وهذا ما مثلته “الوطنية الديموقراطية”. وبالرغم من قطعها لأشواط مهمة نجملها في السعي إلى توسيع “فضاء المدني” وتقليص “فضاء المقدس”، فإنها خسرت الرهان أمام “الوطنية الملكية” التي تأسست على قاعدة محافظة خصوصا في مجال طبيعة الشرعية السياسية للنظام القائم، شرعية آتية من خارج النظام السياسي ومن خارج “الشعب” كمفهوم حداثي مقارنة “بالأمة”، فتفوقت هذه “الوطنية الملكية” في غرس التقليدانوية كتمثل عصري للثقافة المحافظة الموروثة، وتلك أهم نجاحات الملك الحسن الثاني حسب عبد الله العروي12.
القلق الذي يعتصر الحقل النقابي، نما وترعرع في ظل هذا الانكسار الظرفي للوطنية الديموقراطية والذي ينضاف للانكسار الاستراتيجي الذي أحدثته صدمة الحداثة. أما احتجاجات العقد الأخير التي تتميز بتبعثر الفعل الاجتماعي جراء توسع فضاءات الاحتجاج وسيادة الفئوية والجهوية، فإنها تندرج في سياق التيه الجماعي للتوجه الوطني الديموقراطي والانتعاش الملحوظ للهوياتية القائمة على قاعدة دينية أو عرقية أو جهوية.
الهوامش:
1- المنظمة المغربية لحقوق الانسان: تقارير لجان تقصي الحقائق ، العيون ،الحسيمة ، صفرو، القصر الكبير ، سلا ،سيدي إفني . منشورات مؤسسة فريديوتش هيبارت ، الرباط 2009.
2- يتعلق الأمر عموما بمثقفي اليسار الراديكالي المغربي
3-LAROUI.A : Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912) . Editions Fronçois Maspéro ,Paris 1976 ,pp.124-125.
4-HOBSBAWM.E.J. : L’age des extrémes ,Histoire du court XXe siecle . éditions complexes et le Monde diplomatique , Bruxelles 2003 ,p.732.
5-BAUDRILLAR. J. :La Modernité, in « Encyclopédia Universalis » édition de 1980 ,vol 11 ,p. 141
6- نفس الديباجة ستثبت في تصدير دستور 1996 ، انظر النص الكامل في آراء ومواقف حول الإصلاح الدستوريمنشورات “حركة المطالبة بدستور ديموقراطي ” الرباط 2005 ،ص ص 167- 180 .
7-AYACHE.G : Les origines de la guerre du Rif, éd. SMER (Rabat) et publications de la Sorbonne (Paris) 1981, p.88.
8- Idem, p. 250.
9-GALLISSOT T.R : Le Maghreb de traverse , éditions Bouchéne , Paris 2000 , pp. 169-180.
10- بوعزيز المصطفى : الوطنيون المغاربة في القرن العشرين 1873- 1999 . أطروحة دكتوراة دولة في التاريخ، كلية الآداب عين الشق ،شعبة التاريخ ، يناير 2010 ، ص ص 435- 441 .
11- ن. م. س . ، ص ص 355- 359 .
12-LAROUI. A : Le Maroc et Hassan II , un témoignage , édition du Centre Culturel Arabe, Casablanca , 2005 , p. 49.