الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » تاريخ المغرب قبل الإسلام بين التحيين والتركيب

تاريخ المغرب قبل الإسلام بين التحيين والتركيب

مقدمة

ينصب اهتمامنا في هذه القراءة على فصلين من فصول كتاب “تاريخ المغرب تحيين وتركيب”، الذي أنجزه ثلة من الباحثين المغاربة باللغة العربية، وهما الفصل الثاني الذي يغطي فترة ما قبل التاريخ (Préhistoire)، وهي فترة زمنية طويلة تسبق وصول الفينيقيين إلى المغرب، ويتكون من 43 صفحة، والفصل الثالث الذي يعالج فترة التاريخ القديم (Histoire ancienne)، من مجيء الفينيقيين إلى مجيء المسلمين، ويتكون من 60 صفحة. ولقراءة متأنية لهذين الفصلين، ورصد أفضل للمجهود الذي بدل في كتابتهما على مستويي التحيين والتركيب، ارتأينا في البداية الإشارة لمسألتين:

أولاهما أن “التحيين والتركيب” يعني الاستفادة من التراكم الحاصل على مستوى المعلومات والشواهد والكتابة وطرح أسئلة جديدة، وأيضا من التقدم الذي عرفته الحقول المعرفية الأخرى والعلوم المساعدة، وتوظيف كل ذلك في كتابة تاريخ يلقي الضوء بصورة أفضل وأعمق على مختلف الموضوعات الرئيسية والفرعية المكونة لهذا التاريخ.

وثانيتهما ترتبط بخصوصية واختلاف الفترة التي يعالجها هذان الفصلان عن الفترات اللاحقة لها، من جهة اعتمادها بدرجة كبيرة على تقدم الأبحاث الأثرية، وطغيان فراغات وبياضات كثيرة على مراحل مهمة منها نظرا للنقص الحاصل في المادة المصدرية، وحضورها الباهت في عملين تركيبين سابقين كتبا باللغة الفرنسية[1]، بحيث لم يخصص لها على سبيل المثال هنري تيراس في أواخر أربعينات القرن الماضي أكثر من 32 صفحة في الجزء الأول من مؤلفه الذي يشتمل على 900 صفحة موزعة على جزأين؛ أي أنه خصص إحصائيا حوالي 4 في المائة من مجمل صفحات  الكتاب لفترة تغطي حوالي 99 في المائة من تاريخ المغرب.

لكن انطلاقا من ثمانينيات القرن الماضي ستحدث طفرة كبيرة على مستوى الأبحاث والاكتشافات الأثرية وتراكم الشواهد المادية، بالنسبة لفترتي ما قبل التاريخ والتاريخ القديم، أضف إلى ذلك مشاركة باحثين مغاربة في هذه الاكتشافات، وفي نشر نتائجها باللغات الأجنبية غالبا، الأمر الذي جعل من توظيف واستغلال هذه المستجدات، وجمع المعطيات المتناثرة في عمل شامل تركيبي، مسألة ملحة ومطلوبة.

فإلى أي حد توفق الفصلان الثاني والثالث في تحقيق هذا الهدف.

 

Iمغرب ما قبل التاريخ من الأصول إلى القرن 8 ق.م

تناول الفصل الثاني اعتمادا على الاكتشافات الأثرية، وعلى التقدم الذي عرفته مجموعة من العلوم المساعدة مثل الإناسة الحيوية ودراسات البيئة القديمة، وأيضا التقدم الذي شهدته مناهج التأريخ، المحطات الرئيسية للمسيرة الطويلة التي قطعها الإنسان المغربي قبل معرفته للزراعة والاستقرار، على مدى زمني طويل يمتد من مليون سنة ق.ح (قبل الحاضر) إلى القرن 8 ق.م. مهتما برصد ظهور أسلافنا الأوائل وتطورهم خلقيا، وتطور نمط عيشهم وصناعة أدواتهم وتركيبتهم المجتمعية وثقافتهم، وتكيفهم مع البيئة التي عاشوا فيها وحيشا ونباتا ومع التطورات والتغيرات المناخية الكبرى التي شهدتها عصور ما قبل التاريخ. وذلك في خط تصاعدي يركز أساسا على التقدم والارتقاء، ويحكمه هاجسان رئيسيان: تتبع عناصر الاستمرارية بين عصوره من جهة، وربط المغرب بجذوره الإفريقية وانفتاحه على محيطه المتوسطي خصوصا على جنوب إبيريا من جهة أخرى. ودون نسيان مناقشة العديد من الأطروحات والفرضيات السائدة حول موضوعات أساسية مرتبطة ببعض محطات هذه الحقبة الطويلة، بأسلوب سلس ينطلق من العام إلى الخاص.

1- رصد مظاهر التطور والاستمرارية

خلال رصد هذه المظاهر وقف الفصل الثاني في المحطة الأولى، أي العصر الحجري القديم الأسفل، على أولى المصنوعات الحجرية الإنسانية التي اكتشفت في أماكن متعددة من المغرب، من الصحراء إلى الساحل المتوسطي، والتي يعود تاريخ أقدمها بنواحي الدار البيضاء إلى مليون سنة ق.ح، ملقيا الضوء على طريقة وتقنية صناعة هذه الأدوات الحجرية التي تسمى بالأشولية، وخصوصا تلك الفأس الحجرية اليدوية أو ذات الوجهين المميزة لهاته الصناعة. ووقف أيضا على تطورها، حيث أصبحت هذه الفأس حوالي 400 ألف سنة ق.ح أقل سمكا وأكثر نجاعة في قطع اللحم وتهشيم العظام وشذب الأغصان، وعلى تزايد عدد الأدوات المنقحة والشظايا المقتطعة، وهو التطور التقني الذي سيصل أوجه حوالي 200 ألف سنة ق.م ويسمى باللوفوازي.

ورُبطت هذه الصناعة بالإنسان المنتصب (Homo Erectus)، الذي يعتبر أقدم شكل إنساني يعثر عليه بالمغرب، وهو إنسان قصير القامة أتى من شرق إفريقيا، شكله خشن وبدائي، إلا أن شكل ملامحه يحمل في طياته ما سوف يكون عليه الإنسان العاقل للمحطة التالية، وهو ما يؤيد فرضية الاستمرارية تقنيا وخلقيا في المغرب ما بين الحجري القديم الأسفل والأوسط على الأقل. وقد عاش هذا الإنسان ضمن مجموعات صغيرة، معتمدة في غذائها على أكل اللحوم والالتقاط، مستفيدة من وفرة الحيوانات، غير أنها جهلت استعمال النار في معالجة أكلها، أو في الإنارة والتدفئة. كما جهلت الاعتناء بموتاها ودفنهم، وأيضا الاعتناء بمظهرها والتزين بحلي.

ـ وستشهد مكتسبات الفترة الأشولية تطورا كبيرا على مستوى الصناعة الحجرية خلال الفترة التي ستليها، وهي فترة العصر الحجري القديم الأوسط، التي تمتد من 200 ألف سنة إلى 25 ألف سنة ق.ح، تطور ينسب للإنسان العاقل (Homo Sapiens)، وهو لا يختلف جسمانيا إلا قليلا عن سابقه الإنسان المنتصب القامة، ولكنه أرقى قليلا منه شكلا. ويتم التمييز في هذه المحطة من تطور الإنسان المغربي وصناعته الحجرية بين مرحلتين متتاليتين:

المرحلة الموستيرية (نسبة إلى منطقة Moustier بفرنسا)، وعثر على بقاياها بجبل إيغود ومغارة العفص بناحية وجدة، امتدت ما بين 190 ألف و80 ألف سنة ق.ح. سكن إنسانها المغارات والملاجئ الصخرية، كما أقام في أماكن مكشوفة. وتميز عن سابقه بمعرفته استخدام النار في طهي لحوم الطرائد التي يصطادها، وفي إنارة الكهوف والتدفئة.

المرحلة العاترية (نسبة إلى بئر العاتر بالجزائر) التي تم المرور إليها بدون تغييرات مفاجئة، تتميز صناعتها الحجرية بالأدوات المعروفة بذات السويقات. وعلى عكس الموستيريين شغل العاتريون نطاقات جغرافية واسعة بالمغرب، تشمل الواجهة الأطلنتية ما بين الرباط وتمارة، والجهة الشرقية من المغرب، وتعود أقدم آثارهم إلى حوالي 100 ألف سنة ق.ح. وتم الوقوف خلال هذه المرحلة على التقدم الذي عرفه الإنسان العاتري تقنيا وثقافيا وفنيا، وعلى تطورات مناخية كبرى كان لها تأثير على انتشاره وتحركه.

فعلى المستوى التقني شكل ابتكار الأدوات الحجرية ذات السويقات، التي استعمل بعضها كرؤوس نبال وحراب أي أسلحة، نقلة كبيرة في حياة إنسان هذه الفترة، حيث مكنه استخدام هذه الأسلحة الجديدة من انتقاء الطرائد وإصابتها عن بعد، وتأمين أحسن لغذائه. وعلى المستوى الفني بلغ مرتبة متقدمة من “الحداثة الثقافية” بابتكاره لأولى التعبيرات الرمزية أو الفنية، المتمثلة في صنع الحلي وأدوات الزينة من أصداف وحجارة مخرومة، إلا أنهم لم يعرفوا دفن موتاهم بعد. وعلى مستوى التطورات المناخية، التي عرفتها المنطقة انطلاقا من 52 ألف سنة ق.ح، أدى تشكل الصحراء الكبرى إلى الحد من سهولة تحركه جنوبا، وعلى العكس من ذلك أدى انخفاض مستوى سطح البحر إلى تقليص المسافة الفاصلة بين ضفتي المضيق، وهو ما مكن بعض المجموعات العاترية من العبور إلى الضفة الأخرى.

وسيعرف هذا التقدم خطوة أخرى إلى الأمام خلال العصر الحجري القديم الأعلى الذي يمتد من 22 ألف سنة إلى حوالي 8000 سنة ق.ح، والتي أطلق عليها اسم الحقبة الإبيرومورية نظرا لتشابه الأشكال الخارجية للأدوات الحجرية التي اكتشفت بكل من جنوب إسبانيا وشمال إفريقيا، وأطلق على صانعها اسم إنسان مشتى العربي نسبة لموقع بالجزائر. فقد عرفت هذه الحقبة تطورات مهمة على المستوى التقني والمجتمعي والثقافي؛ إذ طور إنسانها صناعة أدواته الحجرية، وهي أدوات قطعت على شكل نصال ونصيلات. ومجتمعيا عاش في جماعات صغيرة متعاونة، استقرت بإقامات مكشوفة أو داخل الكهوف بمناطق متعددة من المغرب شمال الأطلس الكبير، إلا أنها عرفت وجود تمايزات وتفاوتات بين أفرادها، كما توضح ذلك الحلي المرافقة للجثامين. كما طور أدوات الزينة حيث تحلى بعقود وقلادات مصنوعة من قواقع وعظام وقيض بيض النعام. ويعتبر دفنه الموتى أهم “نقلة” عرفها هذا العصر، إذ اهتم بمواراة جثامين الموتى في قبور، وإحاطتهم بقرون بعض الحيوانات خصوصا الأروي، وإرفاقهم بأثاث مكون من مصنوعات حجرية مختلفة.

ويحصل الانتقال بسلاسة وبدون قطيعة تذكر من العصر الإيبيروموري إلى العصر الحجري الجديد (7000-3000 ق.م) وهو عصر ما يعرف بالنقلة النيوليثية، وهي نقلة نوعية موسومة بالاستقرار وصناعة الحجارة المصقولة ومعرفة الإنسان للزراعة واستئناس الحيوان وصناعة الخزف، عثر على آثارها بمواقع متعددة تنتشر من الصحراء جنوبا إلى السواحل المتوسطية شمالا.

وتم الوقوف خلال هذا العصر على خصوصيته بالمغرب؛ حيث تدرج كل جماعة في هذا العصر بمجرد معرفتها عنصرا من عناصر ابتكارات هذا العصر (استئناس الحيوان ـ الزراعة ـ الخزف). وهكذا بدأت حوالي سنة 5600 ق.م تحصل هذه الابتكارات تدريجيا وبالتتابع، حيث ظهر الخزف الذي يسميه المتخصصون بالخزف الكارديالي بشبه الجزيرة الطنجية، ثم بالساحل الأطلنتي بين الرباط وتمارة حولي 5500 ق.م، ويبدو أن صناعة الفخار سبقت معرفة الزراعة بالمغرب، ذلك أن زراعة الحبوب لم تظهر بمنطقة تطوان قبل 5300 ق.م، ومن المفارقات التي تسم هذه العصر أن هذا النشاط الفلاحي لم يواكبه تدجين الحيوان؛ حيث استمر إنسان الفترة الكارديالية في ممارسة الصيد الذي ظل يشكل المصدر الأساسي لغذائه، ولم يتم تعميم التدجين ـ تربية الغنم والماعز وأيضا البقريات ـ إلا ابتداء من 4000 ق.م، ليحصل بذلك الانتقال من طور الاعتماد على الصيد واللقاط إلى طور الإنتاج.

كما ألقي الضوء على ما عرفه هذا العصر من نمو ديمغرافي مضطرد، وتحركات بشرية كبرى من الجنوب إلى الشمال، ومن السواحل إلى الجبال، نتيجة دورات الجفاف التي عرفها المغرب ما بين النصف الثاني من الألف الخامسة وأواسط  الألف الثالثة؛ فحوالي 4300 ق.م ستهاجر جماعات من الجنوب الصحراوي نتيجة الجفاف في اتجاه الشمال ليظهر الخزف ذي القعر المخروطي، الذي اختصت به المناطق الجنوبية، بمقابر الشمال. وأيضا على ما عرفه المستوى الجنزي من دفن الموتى على الجنب في وضع القرفصاء أو الجنين، مصحوبين بمصنوعات خزفية بجانب الرأس، وطلي القبور بالمغرة الحمراء.

وستصل هذه التطورات أوجها في العصر الأخير الذي سبق وصول الفينيقيين، أو عصر ما قبيل التاريخ الممتد من سنة 2900 ق.م إلى 800 ق.م، الذي عرف فيه قسم من المغرب تطورات مهمة تقنية واجتماعية وثقافية. فتقنيا أهم ما يميزها، إضافة إلى ظهور “الخزف الجرسي الشكل”، وجود فؤوس مفلطحة، وأسنة سهام معدنية من طراز بالميلا مشابهة لتلك التي وجدت بإبيريا وأيضا لتلك الموجودة بالنقوش الصخرية بالأطلس الكبير. وتم إرجاع أصل هذه الأسلحة إلى إبيريا، إذ وصلت إلى المغرب عبر مبادلات بين الضفتين (الأدوات المعدنية الإبيرية مقابل مواد أولية مغربية مثل بيض النعام والعاج).

واجتماعيا عرف إنسان هذه الفترة، وهو ذا سحنة متوسطية، ظهور تفاوتات بين أفراده، وبروز أشخاص ذوي مكانة خاصة ومتميزة داخل المجتمع، كما تدل على ذلك عظمة معالمه الجنزية، وخصوصا المقابر الميغاليتية، والتي تتكون لحودها من أربع صفائح حجرية مغروسة في الأرض في اتجاه عمودي، ومسقفة بصفائح كبيرة قد يصل وزن الواحدة منها 1200 كلغ، وبداخل هذه القبور ترقد الجثامين إما في وضع القرفصاء أو وضع الجنين، وقد طليت بالمغرة الحمراء، على ما يبدو، وهي طقوس مشابهة لما كان سائدا لدى الإنسان الإبيرموري والعصر الحجري الجديد. واقتصاديا ارتكز نشاط هذا الإنسان على الزراعة وتربية قطعان صغيرة من الماشية، إضافة إلى ممارسة صيد الحيوانات والأسماك.

2- مناقشة بعض الأطروحات والإشكاليات

لم يفت هذا الفصل خلال رصد هذه التطورات التي عرفها مغرب ما قبل التاريخ عرض مجموعة من الأطروحات والإشكالات ومناقشتها وتفنيد بعضها، وصعوبة الحسم في بعضها الآخر. ومنها على سبيل المثال لا الحصر بداية المرحلة العاترية خلال العصر الحجري القديم الأوسط، ونهايتها وعلاقتها بالفترة التي تليها وهي فترة الإبيروموريين، ولكن رغم ذلك يميلون إلى الأخذ بوجود استمرارية وعلاقة بين هذه المرحلة وما سبقها وما تلاها، وإلى كون إنسان الفترة الإبيرومورية وحضارته مزيجا ناتجا عن اندماج ما تبقى من العاتريين مع أقوام أخرى نازحة من جنوب شرق إسبانيا، نظرا لسهولة الاتصال بين الضفتين (خلال جفاف 22-18 ألف ق.ح). ومنها أيضا تفنيد الفرضية القائلة بارتباط “النقلة النيوليتية”، بنزوح بشري كثيف، من إبيريا نحو المغرب، اعتمادا على أقدمية الخزف الكرديالي بإسبانيا، وإرجاع ذلك إلى مبادلات عبر المضيق؛ حيث ظل “السياق الحضاري” مطبوعا بقوة بالأنشطة والأنماط المعيشية التي عرفتها الحقبة الإبيرومورية كالصيد وتواتر إنتاج معدات حجرية على شكل نصال ونصيلات، والتزين بحلي مخرومة منظومة في سلاسل، إضافة إلى أن البقايا العظمية البشرية تبين وجود استمرارية، وعدم تأثر تركيبة السكان بقدوم عناصر طارئة.

كما توقف عند الصعوبة التي تكتنف استجلاء خبايا هذه الفترة حتى الآن، ودراسة وكتابة تاريخها إجمالا، وتاريخ بعض محطاتها تخصيصا، في ظل المعلومات المتوفرة، ومنها على سبيل المثال الفترة الممتدة من سنة 9000 ق.م إلى بداية العصر الجديد التي تظل في حاجة إلى مزيد من تسليط الضوء، نظرا لما يعوزها حتى الآن من مواقع أثرية. ومنها عصر قبيل التاريخ أو عصر المعادن، نظرا لقلة المعلومات والشواهد المعدنية.

ولم يتم نسيان أيضا تخصيص حيز مهم لموضوع إشكالي، ألا وهو الفن الصخري الذي تنتشر لوحاته بالأطلس الكبير والمناطق الشبه صحراوية والصحراء الأطلنتية المغربية وسهل الحوز، من حيث التصنيف والتأريخ وتمييز النقوش التي تعود لما قبل التاريخ وما قبيل التاريخ عن تلك التي تعود للفترة التاريخية والتي تسمى بالليبية البربرية، ويتضمن بعضها كتابة ليبية. والاعتماد عليها كمصدر من المصادر في تقديم صورة عن الوحيش الموجود خلال النيولتيك وعصر المعادن، والأسلحة المعدنية وغير المعدنية التي استعملها إنسان هذه الفترة.

      مجمل القول بدل مؤلفو هذا الفصل، بناء على ما استجد من معطيات، مجهودا محمودا في كتابة بعض صفحات تاريخ هذه الفترة الطويلة زمنيا، وتحديد الإشكالات المرتبطة بها، إلا أنه ينبغي الانتباه إلى مسألة مهمة، وهي أن ساكنة المغرب لم تكن تسير بسرعة واحدة وفي اتجاه واحد، وأن ما نعرفه حولها ينطلق مما أعطته مواقع متناثرة وقليلة، لا تشمل إلا جزءا يسيرا من تراب وساكنة المغرب. فالمرور من فترة إلى أخرى، ومعرفة بعد الاكتشافات الكبرى، لا يعني أن كل الجماعات والمناطق المغربية عرفت ذلك، فمثلا التأكيد على “انتشار الأشوليين بمجموع التراب المغربي”[2]، وعلى أن “كل المناطق المغربية عرفت العصر الحجري الجديد”[3][1]، ينبغي أخذها بحذر، فوجود تفاوتات بين مناطق المغرب منذ هذا العهد السحيق واختلاف في نمط العيش وفي مستوى “التقدم” مسألة ينبغي أخذها بعين الاعتبار للابتعاد قدر الإمكان عن التعميم.

ورغم ذلك يمكن الجزم أن قاطرة التقدم نحو الفترة التاريخية توفرت وإن بشكل محدود، بتوفر الشرط الأساسي وهو عيش قسم من ساكنة المغرب في جماعات منظمة تعرف الزراعة وتدجين الحيوانات والمعادن، وقادرة على التعامل مع التاجر الفينيقي المتردد على سواحله.

 

IIالمغرب والعالم المتوسطي

ركز الفصلالثالث، اعتمادا على المصادر الأدبية الإغريقية والرومانية والمعطيات المتجددة للأبحاث الأثرية، على إلقاء مزيد من الضوء على التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي عرفها قسم من المغرب، وهو القسم الذي يوجد شمال نهر بورقراق مع إدخال أرخبيل الصويرة، نظرا لتوفر المعلومات حوله عكس الجنوب والجبال، وأيضا على علاقة هاته التطورات بالقوى المتوسطية الكبرى بدء بالفينيقيين ووصولا إلى البيزنطيين، وخصوصا على نشأة وتطور ظاهرة التمدين والأنشطة المرتبطة بها، واتساع الاستقرار وتعاطي الزراعة. وتم تقسيم أحداثه لمرحلتين كبيرتين: مرحلة أولى سميت بالمرحلة المورية ما بين نهاية القرن 9 ق.م وسنة 40 م. ومرحلة ثانية سميت بموريطانيا الطنجية من الاحتلال الروماني إلى مجيء الإسلام.

وهكذا أُلقي الضوء في المرحلة الأولى على وصول الفينيقيين نهاية القرن 9 ق.م ـ بداية القرن 8 ق.م، قصد الحصول على المواد الأولية معدنية وحيوانية، واتصالهم بجماعات محلية منظمة ومستقرة، وإقامتهم لمستوطنات ومراكز على السواحل أو مصبات الأنهار، ومن بينها لكسوس وسلا وروش أدير (مليلية) إضافة لمركز بموكادور، وارتباط هذه المستوطنات بفضاء واسع شمل السواحل الغربية للجزائر والجنوبية الغربية لإيبريا. وسيؤدي الوجود الفينيقي أيضا إلى ظهور تجمعات سكنية جديدة تدريجيا انطلاقا من النصف الثاني من القرن 6 ق.م لها ثقافة يغلب عليها العنصر البوني، وإلى توغل ظاهرة التمدين نحو الداخل على الأنهار الصالحة للملاحة. وقد ارتبطت هذه المراكز بروابط  ثقافية واقتصادية مع المستوطنات والمراكز الفينيقية الموجودة بجنوب إبيريا لتشكل معا ما يسمى ب”دائرة المضيق”. كما أدى هذا الوجود إلى توسع ظاهرة الاستقرار واستغلال الأرض، وتطور ملحوظ لصناعة الخزف بفضل إدخال المخرطة. ورافق أيضا هذه التطورات انتشار فضاءات جنائزية قرب المساكن، دفنت الجثث في قبورها في وضع القرفصاء وأحيانا في وضع الجنين. وكان طقس الحرق التام أو ما يعرف بالترميد نادر الوقوع.

هذه التطورات ستعرف أبعادا أخرى انطلاقا من نهاية القرن 3 ق.م، الذي ينفتح على عهد جديد، يسجل بداية مشاركة وانخراط ملوك المملكة المورية، من باكا إلى بوكوس الأصغر (توفي سنة 33 ق.م)، في بعض الأحداث الكبرى للبحر الأبيض المتوسط، ويسجل أيضا بداية دخول المنطقة في فلك روما وتأثرها ببعض مظاهر حضارتها. وتم التطرق في هذه المحطة من تاريخ المغرب القديم لصعوبة البحث في الجذور الأولى للمملكة المورية وتشكلها، انطلاقا من المعلومات المتوفرة في المصادر، وأيضا لتحديد مجالها الممتد شمال بلاد الجيتول الموجودة جنوب نهر سلا، ولطبيعة نظام المملكة السياسي والإداري الذي يحتكر فيه الملك، محاطا بمساعديه كل السلطات، ولارتباط المملكة تدريجيا بالسوق الإيطالية مع حفاظها على علاقاتها المتينة مع جنوب إييبريا ما بين نهاية القرن 3 ق.م وسنة 33 ق.م.

كما تم الوقوف خلال هذه الفترة على ما رافق هذه التطورات السياسية والتجارية والعلاقات مع روما، من تغييرات تدريجية همت جوانب ثقافية ـ حضارية وتمدينية، منها استعمال الملكين الأخيرين (بوكوس الثاني وبوكود) للخط واللغة اللاتينية على نقودهما، بينما كانت اللغة البونية هي السائدة فيما سبق. ومنها طريقة دفن الموتى، حيث بدأ طقس حرق الجثامين يعوض دفنها (لكسوس ـ سلا). ومنها أيضا تكاثر التجمعات السكنية، وتحول بعضها إلى حواضر حقيقية لها مؤسساتها السياسية والإدارية (مجالس وحكام)، ولها سكتها التي استعملت بها الخط البوني، إلا أننا نجهل تخطيطها وعمرانها لأنه طمر من قبل البنايات الرومانية.

وستتعمق هذه التغييرات أكثر ما بين سنة 33 ق.م وسنة 40 م، بإنشاء ثلاثة مستوطنات بالمغرب (زيليل وبناسا وبابا كمبستربس) سبقت إقامة مملكة موالية نصب الرومان عليها يوبا الثاني ملكا سنة 25 ق.م؛ إذ عرفت خلال هذه المرحلة المملكة ومدنها ازدهارا اقتصاديا وتجاريا وصناعيا مهما، قبل أن تنتهي بقتل الإمبراطور الروماني كاليكولا للملك بطليموس ابن يوبا الثاني سنة 40 م، وتحويل المملكة لإقليم محتل، وبالتالي الدخول في مرحلة ثانية أهم ما يميزها هو الاحتلال الأجنبي.

خصصت هذه المرحلة الثانية، التي تبدأ بالاحتلال الروماني سنة 40 م وتنتهي بمجيء المسلمين في القرن 7 م، لتتبع التطورات التي عرفها إقليم موريطانيا الطنجية على جل المستويات الإدارية والحضرية والاقتصادية والدينية والسياسية. فإدرايا، أُلقي الضوء على ظهور هذا الإقليم سنة 42 م بالجزء الشمالي الغربي من المغرب، واتخاذ مدينة طنجة عاصمة له بعد حروب التهدئة (40-42 م) التي أعقبت اغتيال الملك بطليموس، وإقامة إدارة مركزية ومحلية، وجهاز دفاعي مكون أساسا من معسكرات وأبراج مراقبة لتأمين حدود الإقليم المستحدث وضمان الاستقرار بربوعه. وحضريا على ما عرفته المدن المورية من تطور وتوسع كبيرين تحت الاحتلال الروماني، وتأثرها بالعمارة والهندسة الرومانية، وظهور مساكن فاخرة، وانتشار مدافن خارج الأحياء السكنية غير بعيد عن الأبواب، شملت الدفن والترميد. واقتصاديا تم الاهتمام بالتطور الذي عرفته الفلاحة والصناعة خصوصا تمليح وتصبير السمك، واندماج موريطانيا الطنجية بالمحاور التجارية المتوسطية. وعلى المستوى الثقافي والديني تم التطرق لانتشار المعابد والعبادة الرسمية الرومانية وآلهتها، مع تسجيل استمرار بعض الآلهة المحلية. وسياسيا لم ينس هذا الفصل الاهتمام ببعض قبائل موريطانيا الطنجية، وعلاقتها بالرومان خلال القرن 2 و3 م، وأهمها الباكواط.

إلا أن هذا التوسع وهذا الازدهار سيتأثر بحدث هام نهاية القرن 3 م، تجلى في تخلى الرومان عن الجنوب ومدنه وتحويل حدودهم نحو حوض اللكوس مع حفاظهم على سلا وموكادور، وإعادة انتشار قواتهم العسكرية ومعسكراتهم بالشمال، وربط الإقليم إداريا بأبرشية إسبانيا. فقد شهدت الظاهرة الحضرية تراجعا، سواء بالجهة التي تم التخلي عنها أو التي تم الاحتفاظ بها خلال هذه الفترة، حيث تقلص المجال الحضري لمدينة لكسوس نهاية القرن 3 م، وتوقفت الحياة ببناسا.

وستشهد هذه المدن ضربة موجعة أخرى سنة 429 م بمرور الوندال الذين خربوا عددا كبيرا منها مثل زيليل، وأدخلوا الإقليم في عزلة إذ انقطعت صلاته بالتيارات التجارية المتوسطية ابتداء من الربع الثاني من القرن 5 م. ورغم هزيمة الوندال والقضاء عليهم سنة 533 م لم يتمكن البيزنطيون من إعادة الحيوية للمدن المورية. ورُبط تراجع ظاهرة التمدين (إخلاء المدن، تقلص المجال الحضري لبعضها)، وتوقف المعاملات التجارية مع العالم المتوسطي في الجنوب بعد انسحاب الرومان منه، وفي الشمال بعد انهزامهم أمام الوندال، إلى صمود البنية القبلية ومقاومتها لمختلف المؤثرات الخارجية؛ إذ بمجرد تراجع نفوذ روما تراجع التمدين وتراجعت ثقافة الكتابة.

وينتهي هذا الفصل بالتطرق لوجود طائفتين دينيتين منظمتين: يهودية ومسيحية، الأولى بدء من القرن 3 م، توفرت على بيعة بوليلي وأحبار، والثانية بدءا من القرن 4 م وكانت لها كنيسة بطنجة وزيليل، وانتشر أتباعها بوليلي. وأيضا لوجود مملكة مستقلة بوليلي أشرفت على تسيير المدينة وبناء أحد أسوارها، والقيام بحملات عسكرية بعيدة في اتجاه الجزائر، والحصول على أسرى من بينهم سيدة تدعى روكاتيفا عثر على نذر جنزي يخصها بوليلي.

      مجمل القول إن هذا الفصل تناول العناصر الأساسية الهيكلية المكونة لتاريخ هذه الفترة، ووقف على صعوبة إلقاء الضوء على بعض الفترات من تاريخ المغرب التي يطلق عليها العصور الغامضة أو الفترات المظلمة، وارتهان معرفة خباياها باكتشافات أثرية جديدة (بالنسبة للشمال)، وبإعادة قراءة الآثار الموجودة التي تنسب عسفا لما قبيل التاريخ (بالنسبة للجنوب).

إلا أن تغليب كفة المصادر الأثرية على كفة المصادر المكتوبة والأخذ بنتائجها أثر أحيانا على الحسم في بعض القضايا التي ما زال باب النقاش حولها مفتوحا، وعرفت جدالا حادا بين المؤيدين والمعارضين، ومن بين أهمها تحديد بداية الفترة التاريخية بالمغرب ووصول الفينيقيين بالقرن 8 ق.م، ضدا على النصوص الأدبية التي ترجع ذلك للقرن 12 ق.م، وبذلك أسقطت أربعة قرون من تاريخ المغرب من الحقبة التاريخية، وإدخالها ضمن ما قبل التاريخ، وهو أمر يحتاج إلى تريث كبير، خصوصا وأن الأبحاث الأثرية وإعادة قراءة اللقى القديمة ما زال مستمرا. أضف إلى ذلك، ولضرورات منهجية مرتبطة بما تمدنا به المصادر، تعذر تجاوز مقاربات الكتابات السابقة والمتمثلة في تخصيص “حصة الأسد” للتأريخ للأجانب (الفينيقيون في المرحلة الأولى ثم الرومان في المرحلة الثانية)، وقلب هذه المعادلة لصالح الحضور المحلي.

 

خلاصة

يمكن التأكيد على كون الفصلين الثاني والثالث من كتاب “تاريخ المغرب تحيين وتركيب” توفقا كل في فترته في توظيف، تحيينا وتركيبا، ما استجد من معطيات ومعلومات في كتابة بعض “صفحات” تاريخ المغرب قبل مجيء المسلمين، بلغة سلسلة واضحة، ورصد التطورات الكبرى التي عرفها، وتتبع المرور من حياة القطيع إلى حياة جماعات منظمة ومستقرة، تتعاطى للزراعة وتربية المواشي، ومؤهلة للتعامل مع التاجر الفنيقي. وفي معالجة انفتاح المغرب على محيطه المتوسطي وانتشار ظاهرة التمدين في مواجهة القبيلة، وانتكاستها بعد تراجع نفوذ الرومان. وأيضا في مناقشة بعض الأطروحات المرتبطة بهذه الفترة الطويلة، وتحديد المواطن التي تحتاج إلى مزيد من البحث، إن على المستوى الزمني أو المجالي، لاستجلاء خباياها.

غير أن مسألة “التحيين والتركيب” إذا كانت قد حصلت على مستوى كل فصل على حدة، فإننا نسجل غياب التكامل بين الفصلين على مستوى طرح الإشكالات والأسئلة المحورية، ووجود قطيعة منهجية بينهما من حيث تحديد الخيوط الناظمة، وهو ما عاكس إلى حد ما أمر التركيب بينهما؛ فكل فصل حدد إشكالاته وخيوطه الناظمة في استقلال تام عن الآخر، باستثناء الاتفاق على الحد الزمني الفاصل بينهما. فأمر التنسيق بين الفصلين أو الفترتين وطرح أسئلة تشملهما معا أو على الأقل تتكامل مع بعضها البعض، وتكون لها علاقة عضوية بالأسئلة والإشكالات الكبرى التي يطرحها الكتاب، أمر مفيد ومهم، لربط جسور التواصل في تاريخ المغرب ما بين ما قبل التاريخ والتاريخ القديم من جهة، وما بين هذين العصرين والعصور اللاحقة من جهة أخرى.

 

[1]قراءة في الفصلين الثاني والثالث من كتاب تاريخ المغرب: تحيين وتركيب، إشراف وتقديم محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث التاريخي، الرباط ، 2011.

[2] Terrasse (H.), Histoire du Maroc des origines au Protectorat français, 2 vol. 401 et 509 pages, Casablanca, Ed. Atlantide, 1949-1950 ; Bringnon (J. et alii), Histoire du Maroc, Paris, Hatier, 1967, (415 pages).

[3] تاريخ المغرب تحيين وتركيب”، م س، ص 41.

[4]نفسه، ص 57.

- عبد العزيز اكرير

112

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.