بنعلي (سعاد)، التحديث وإشكالات الهوية الوطنية في العالم الإسلامي: دراسة مقارنة لتركيا (1839-1938) وإيران (1848-1941).
أطروحة لنيل شهادة دكتوراه في التاريخ، تحت إشراف الأستاذين: عبد الرحمان المودن ولطفي بوشنتوف، نوقشت بـكلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ 03 دجنبر 2018.
أثارت القضايا المرتبطة بالهوية، من حيث سبل تشكلها والنتائج المترتبة عن تفاعلها مع مختلف المتغيرات المستجدة عبر الزمن، اهتمام الباحثين في حقول معرفية متعددة وفي مقدمتها علم الاجتماع والعلوم السياسية والتاريخ. وقد حظيت المجتمعات التقليدية، ومن ضمنها تلك التي تنتمي إلى العالم الإسلامي، بنصيب كبير من الدراسة والبحث بالنظر إلى اختلاف مساراتها من حيث تفاعلها مع معطى التحديث الذي بدأت إرهاصاته الأولية منذ ما اصطلح على تسميته بالإصلاحات. ومنذ لحظة الوعي الأولى بالمفارقة الحضارية بين الذات الإسلامية المتأخرة والغرب الأوروبي المتفوق عسكريا وعلميا واقتصاديا، انخرطت عدد من بلدان العالم الإسلامي في مسار طويل ممتد عبر الزمن، تجاذبت الذات فيه بين هدف اللحاق بركب الحضارة والتقدم ووهم استعادة الماضي وتوظيفه في عملية بناء الهوية سواء في بعدها القومي أو الديني.
ولا يختلف النموذجان التركي والإيراني في التحديث عن باقي المجالات في العالم الإسلامي من حيث الإشكالات المطروحة في خطوطها العريضة. ففي معظم الحالات انتهت تجارب التحديث بظهور أنظمة سياسية تسلطية، وتوترات ذات طابع هوياتي اتخذت مظاهر متعددة شكل الانتماء في بعده الديني والاثني أحد العناصر المستعصية على الحل بالنظر إلى انعدام التوافق حولها. غير أن ما ميز تجربتي التحديث في إيران وتركيا، عن غيرها في العالم الإسلامي، هو حسمها منذ البداية في إحداث قطيعة مع الماضي برموزه وأطره الدينية، ومعانقة التحديث وفقا للنموذج الغربي. فهل كان هذا التوجه كافيا للتصالح مع الذات الفردية والجماعية وتفادي السقوط في أزمة هوية خلفت توترات كان لها امتدادات في التاريخ الراهن؟
إن الغاية من دراسة التحديث في علاقته بإشكالات الهوية في العالم الإسلامي هي التوقف عند سيرورة تطور هوية كل من الترك والإيرانيين في ظل تحولات القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. وفي محاولة للإجابة عن “السؤال الأرسلاني” لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ اختلفت النخبة في تمثلها للإصلاحات وانقسمت بين خيار التقليد تارة والتحديث تارة أخرى. وبين ذلك وذاك، برزت محاولات للتوفيق حرصت دائما على مدى مطابقة الإجراءات الإصلاحية للشريعة الإسلامية. بالموازاة مع ذلك حصل تحول في النظرة إلى الهوية في بعدها الجماعي، بدءا بمفهوم الانتماء إلى الوطن، وانتهاء بمؤشرات تغير العلاقة بالدولة من زاوية أشكال التعاطي مع السلطة السياسية.
لقد أدى تأسيس الدولة الحديثة، في تركيا على عهد مصطفى كمال (1923-1938م) وإيران على عهد رضا شاه بهلوي (1924-1941م)، إلى طرح إشكالات بالجملة خاصة مع التأكيد على الأسس القومية في بناء هوية الوطن الجديد. وقد ارتبط معظم هذه الإشكالات بتعقد البنية الثقافية، وسعي الدولة لفرض الإجراءات التحديثية بأساليب قمعية تسلطية، مما يضعنا أمام الإشكالية التالية: كيف تفاعلت هوية كل من الأتراك والإيرانيين مع محاولات الإصلاح في مرحلة أولى ثم بناء الدولة الوطنية الحديثة في مرحلة لاحقة؟
تعتبر فترة الإصلاحات مرحلة انتقالية هامة مهدت إلى قيام تجارب التحديث الأكثر جرأة في العالم الإسلامي. وعلى الرغم من محدوديتها فإنها تبقى لحظة تاريخية مهمة تمت فيها مساءلة الثوابت النظرية التي قامت عليها السلطة السياسية وعلاقة الدولة بالمجتمع. وقد خلف التدافع والصراع، الناتجين عن تضارب الرؤى حول الإصلاح والتوقعات المرجوة منه، توترات عمقت من الأزمة الداخلية، كما كشفا عن محدوديتهما. وذلك ما ترجمته الثورات الدستورية التي عرفها كل من المجالين الإيراني والتركي، في رد طبيعي من أجل تصحيح المسار وتحقيق الإصلاح السياسي المنشود الذي يقتضي الحد من سلطة الحاكم بقوانين مكتوبة. إلا أن الثورات من أجل الدستور لم تدع إلى إلغاء الأنظمة السابقة، بل اضطرت إلى إدخال تعديل عليها بما يكفل إصلاح البنية السياسية وبنية نظام الحكم في اتجاه عقلنة الإدارة. والقاسم المشترك بين إيران وتركيا هو عدم وضوح المطالبة بالدستور، مما فتح المجال أمام محاولة تكييف التجارب الغربية مع واقع تقليدي. وذلك ما انطبق بشكل كبير على إيران، بحيث اضطرت السلطة القاجارية، بحكم إكراهات الضغوط الأجنبية، إلى مهادنة الثائرين والإذعان لمطالبهم بإرساء الدستور والحياة النيابية. لكن بمجرد وفاة مظفر الدين شاه (1896-1907م) وتولي ابنه ميرزا محمد علي (1907-1909م)، أصبحت العلاقة مع المجلس النيابي متوترة مما قاد إلى حرب أهلية شكل البلاط وقادة الثورة أطرافها الأساسيين.
وقد كان لمناخ الحرب العالمية الأولى دور في عرقلة التجربة الإيرانية، خاصة بعد أن أعلن أحمد شاه (1909-1925م) حياد إيران، مما فتح المجال أكثر أمام القوى المتصارعة لممارسة مزيد من ضغوطها، إذ تدخلت روسيا سنة 1912م من أجل إغلاق المجلس النيابي بعد أن اتهمت إيران بالتعاون مع ألمانيا ضد مصالحها في المنطقة. كما أثرت ظروف الحرب العالمية الأولى أيضا على مسار تجربة حكومة تركيا الفتاة (1909-1918م) التي انحازت بدورها إلى جانب ألمانيا، لذلك فإن انهزامها في الحرب وعجزها عن مواجهة العدوان الأجنبي ألب المعارضين ضدها. وبالرغم من ذلك، سمح مناخ الحرب بحصول نوع من الإجماع شجع حكومة الاتحاد والترقي على القيام بعدة مبادرات تحديثية، كالتقليص من تدخل المؤسسة الدينية في القضاء، وتحديد مهمة شيخ الإسلام، والقيام بخطوات جريئة بخصوص الوضعية القانونية والاجتماعية للمرأة.
وعلى الرغم من محدودية الإصلاحات التي انتهت بخلق نواة لدولة مركزية استندت على الجيش والبيروقراطية لتصريف رؤاها الإصلاحية ثم التحديثية فيما بعد، فإن القرن التاسع عشر يعتبر نقطة مفصلية في تطور هوية الإيرانيين والأتراك. فقد شكل الوطن كل ما هو داخل الحدود، إلا أن هذه الأخيرة تغيرت بسبب الاقتطاعات الترابية التي عرفها المجال العثماني، والاتفاقيات التي أعادت رسم الخارطة الإيرانية، لتساهم الضغوط الأجنبية التي تعرض لها الجانبان في انتقال مفهوم الوطن من بعده الشمولي إلى دولة معلومة الحدود تطلب الدفاع عنها عصرنة مفهوم الجهاد الذي أصبح يحمل معنى الدفاع عن الوطن بدل الدفاع عن أرض الإسلام، وهو ما بدا واضحا في إيران منذ ثورة التنباك وما تلا الثورة الدستورية من فوضى أنهاها رضا شاه بعد إخضاعه لمجموع التراب الإيراني، وفي تركيا منذ حرب التحرير التي كانت بمثابة صك ميلاد الوطن الجديد انطلاقا من أسس جديدة.
إن الانتقال من الإصلاح نحو التحديث، هو خروج من حالة الشتات الفكري، والتضارب في الرؤى بين الانتماء في بعده القومي أو الديني. فبعد مرحلة من السياسات المتراوحة بين “العثمنة” ثم الرابطة الإسلامية ثم “التتريك” بالنسبة للدولة العثمانية، وبين البعد الديني في إطار المذهب الشيعي الإثنا عشري والبعد القومي الفارسي بالنسبة لإيران، حسمت الدولتان الكمالية والبهلوية مسارا من التخبط والصراع لصالح مشاريع ذات بعد قومي سعت إلى إعادة بناء الهوية من منطلقات شكلت قطيعة مع سابقاتها. لذلك كانت أول خطوة هي إعادة تنظيم العلاقة مع الدين الإسلامي بخلفيته التاريخية وأطره التشريعية في اتجاه تبني القوانين الغربية وفصل الدين عن الممارسة السياسية، كما تبنت مشاريع لإعادة كتابة التاريخ بما يخدم بناء الدولة الوطنية الحديثة، وانخرطت في عملية إصلاح لغوي نحا نحو التطهير في انسجام وتكامل واضحين مع الخطوات السابقة، ليشمل التحديث فرض نموذج الملابس التي على المواطن ارتداؤها.
إن الإصرار على تطبيق المشاريع السابقة فجر تناقضات بالجملة، فدمج الدين بالقومية لم يحل الإشكالات المرتبطة بالأقليات في تركيا، كما لم يحد من سلطة ونفوذ العلماء بإيران. يضاف إلى ذلك أن السعي لصهر المواطنين ضمن نمط هوياتي موحد بأساليب فوقية لم يساهم في إيجاد مخرج لكل قضايا الهوية الوطنية للأتراك والإيرانيين، وهو ما قد يجد تفسيرا له في الأسلوب المعتمد في التحديث.
ساهمت ملابسات ما بعد الثورة الدستورية في إيران والاحتلال الجزئي لأراضيها، وفقدان الدولة العثمانية لمجالها الأوروبي، إضافة إلى تداعيات الحرب العالمية الأولى في التوجه نحو الالتفاف حول رجل سلطة قادر على إرساء سلطة مركزية قوية من شأنها إنقاذ البلاد من أزماتها المختلفة. وفي الوقت الذي قدم فيه النموذج الأوروبي الغربي شكلا انسجمت فيه الدولة بالمجتمع، بات فريق من النخبة، ضمن مجالي هذه الدراسة، مقتنعا بأن الدولة المركزية القوية هي الوحيدة الكفيلة بإنجاز التحديث المنشود والحفاظ في نفس الآن على الوحدة والسيادة داخل الوطن.
لقد خدمت طموحات هذه النخبة تطلعات كل من رضا خان ومصطفى كمال في الاستئثار بالسلطة. ومما ساعدهما في ذلك توافق كاريزما القائدين مع ماضيهما العسكري الحافل بالانتصارات، ليؤسسا لمشروعية اتخذت من الجيش والبيروقراطية أدواتها الأساسية. وإذا كانت تركيا قد نجحت في التحول نحو الجمهورية، وإن في إطار نظام الحزب الوحيد، فإن إيران احتفظت بالقالب القديم للسلطة، حيث قدم نفسه كاستمرارية لملوك فارس الساسانيين في محاولة لإحداث التمفصل بين الماضي والحاضر الإيراني. ورغم اختلاف الأطر السياسية للسلطة، إلا أن الأساليب المتبعة هي ذاتها، إذ طبقت مشاريع التحديث بالإكراه دون الأخذ بعين الاعتبار التدرج الذي يتطلبه أي تغيير، خاصة على مستوى الذهنيات. كما كان الالتفاف حول الزعيم منطلقا لتجربتي التحديث الكمالي والبهلوي، وبالتالي فإن الحاجة إلى زعامة ذات كاريزما اعتبر من قبل النخب المساندة لمصطفى كمال ورضا شاه ضرورة اقتضتها ملابسات المرحلة. وفي الوقت الذي نجح فيه مصطفى كمال في فرض سياسة الحزب الوحيد، فإن رضا شاه فشل في مساعيه نحو خلق حزب تلتف حوله النخب الداعمة لرؤاه في تحديث الدولة والمجتمع.
وعلى الرغم من جرأة المشروعين في منطلقاتهما، فإن جملة من الإكراهات فرضت التحفظ في أجرأة بعض الرؤى التحديثية، خاصة فيما يتعلق بإيران التي وجدت ضرورة للاحتماء بالأطر التقليدية للمجتمع. فرغم حرص رضا شاه على الحد من نفوذ العلماء بكافة الوسائل الممكنة، إلا أنه وجد ضرورة لتقريب بعضهم، خاصة التيار الأخباري، كآلية لمحاصرة العلماء الأصوليين الذين بدأوا في بلورة نظرية سياسية جديدة.
لقد فشل رضا شاه في الحد من سلطة العلماء في إيران، في مقابل ذلك نجد أن مصطفى كمال استطاع تقليص دورهم ليصبحوا مجرد موظفين في الدولة. ويمكن تفسير ذلك بسياسة الاحتواء التي تعرض لها هؤلاء في وقت مبكر، حيث تمكنت الدولة العثمانية من جعلهم جزءا من البيروقراطية، يضاف إلى ذلك إصرار المشروع الكمالي على الحسم في اتجاه إلغاء كل الأطر التقليدية المرتبطة بالماضي العثماني.
لقد مكنتنا دراسة تطور هوية كل من الأتراك والإيرانيين من إدراك أن تطور الهوية لم يسر دائما في اتجاه خطي تصاعدي، حيث شهدت مراحل تاريخية متعددة، عودة عناصر قديمة تقليدية من منطلق دفاعي أدى إلى الانكماش والارتداد تارة، والانتقال نحو مراحل جديدة أكثر تطورا وجذرية تارة أخرى. وفي هذا الإطار، يلاحظ امتداد تطور الإشكالات المرتبطة بالهوية الوطنية إبان مرحلة ما بعد مصطفى كمال ورضا شاه، حيث اختلفت المآلات. ففي الوقت الذي تولد عن التجربة الإيرانية اندلاع أكبر ثورة دينية شهدها القرن العشرون سنة 1979م، عرفت تركيا عودة الدين من جديد بقوة إلى الحياة السياسية والعامة عبر أشكال متعددة.
إن التطورات التي عرفتها كل من إيران وتركيا ابتداء من أواخر تسعينات القرن العشرين، لم تدفع الجانبين نحو عتبة التجاوز في العلاقة بين التحديث والهوية في بعدها الديني، إذ علقت التجربتان في غمار الاستقطاب الشديد الذي لم يراوح مكانه. فإيران تعيش صراعا بين المحافظين الساعين لتكريس خط الثورة الإسلامية، والإصلاحيين الطامحين إلى دولة أكثر ديمقراطية وانفتاحا على العالم. أما في تركيا فقد ازدادت حدة انقسام المجتمع بين العلمانيين الذين يدافعون بشدة عن إرث مصطفى كمال، وبين الإسلاميين الداعين إلى إحياء الصلة بالتاريخ العثماني والثقافة الإسلامية بشكل عام.
موضوع رائع…هنيئاً للباحثة بهذا الموضوع….وشكرا للمشرفين على هذا العمل الجدي والجديد في مجال التاريخ الأستاذين الفاضلين عبد الرحمان المودن ولطفي بوشنتوف