إبراهيم أيت إزي، الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال (1956-1975): محاولة في التركيب، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ، تحت إشراف لطفي بوشنتوف، نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة محمد الخامس بالرباط، بتاريخ 20 شتنبر 2019.
يهدف هذا البحث إلى تتبع الحراك الاجتماعي في المغرب زمن الاستقلال، وسعي المغاربة إلى رفع الحيف وتحقيق التغيير. وقد آثرنا الانطلاق من مرحلة فاصلة في تاريخ المغرب الراهن، وهي المرحلة الممتدة ما بين سنة 1956، زمن الاستقلال، حتى 1975، حيث منعطف المسيرة الخضراء وتبني الخيار الديموقراطي. ونقوم بالحفر في هذا الزمن على قصره، لكننا نعتبره مؤسسا لمطلب التغيير في النسق المغربي، فقد طُبع بملمح التوتر والصدام في سياق بناء وهيكلة الدولة الحديثة المستقلة. مع مراوحة خلال التركيب وبناء الخلاصات في زمن أطول، إذ سنعود لتتبع الظاهرة المدروسة حتى القرن التاسع عشر، مرورا بمرحلة الحماية قصد المقارنة والتقاط الثابت والمتغير، انطلاقا من تسليط الضوء على العوامل والأسباب المهيكلة لها، وآليات الاشتغال، وصولا للمآلات والمنتهى. وذلك بناء على إشكالية مركزية مضمونها: هل نعيش زمن حراك يتكرر، أو صورة معدلة لما وقع في الأزمنة السابقة، أم نحن أمام تحولات جديدة عما كان في القرن 19م وما قبله؟
انطلقنا في الإجابة عن هذه الإشكالية من فرضية استمرار نفس البنية، واستعادة زمن ما قبل الاستعمار بعد 1956. وعمدنا إلى القيام بفحص تفصيلي لعدد قليل من الحالات، بدت أنها الأقرب والأنسب بحكم أبعادها وامتداداتها. وهي ثلاث حالات: الريف 1958-1959، الدار البيضاء 23 مارس 1965، ومحاولتي الانقلاب في سنتي 1971 و1972. وراهنّا على جمع أكبر عدد من المعطيات اعتمادا على أكثر من أداة، لاسيما والقرب الزمني، ومنها: وثائق الأرشيف الديبلوماسي بنانط (Nantes)، الوثائق الديبلوماسية الصادرة عن وزارة الخارجية الفرنسية التي همت الفترة الممتدة ما بين 1955 و1971، وثائق ضمن الأرشيف الأمريكي، الوثائق الرسمية، في مقدمتها خطابات الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني، الدراسات الأكاديمية التي همّت المرحلة، إنتاج “هيئة الانصاف والمصالحة” من أرشيفات مكتوبة وشفهية، المذكرات والشهادات. كما استنطقنا المصدر الشفوي إما عبر تواصل مباشر أو من خلال حلقات تلفزية حوارية أو أفلام وثائقية. كما حاولنا الاستفادة من الصحافة، وطنية وأجنبية.
وقد انتهينا في محصلة هذه الدراسة إلى ما يلي:
1.اقترنت حركية المجتمع المغربي في الحالات الثلاث، بعامل القهر والحرمان؛ وهو ذاته الذي حرك مجتمع القرن التاسع عشر وما قبله، فالجباية والتسخير كانت مفجر البوادي والحواضر على حد سواء. فقد تحرك الريف ما بين 1958-1959 رغبة في تجاوز الإهمال الاقتصادي واستفحال البطالة والفقر والغبن السياسي الذي كان قرين الأبوية المفروضة من قبل الجنوب، وهو المجال الذي اعتاد على التدبير الذاتي منذ زمن. واحتجّت بروليتاريا الدار البيضاء في مارس 1965 وأبناؤها أمام انسداد الأفق وتراجع مستوى المعيشة وأزمة التشغيل، في ظل نظام سياسي توسل بالعنف لكبح الصوت المعارض. وخرج العسكر في سنتي 1971 و1972 عن الطاعة بدافع الأوتوقراطية والفساد واحتكار أقلية سياسية للامتيازات.
2.كان العطب في طريقة تدبير التحرك في الحالات الثلاث، إذ تحركت الجماعات دون بوصلة أو توجيه. ومردّ ذلك إلى غياب المعين الفكري، والتباس الأهداف والغايات. وظلت عاجزة عن التحول إلى حركات اجتماعية منظمة، واضحة الأهداف والبرامج والقيادات، وقادرة على الإسهام في عملية تغيير النسق السياسي والاجتماعي العام، أو إنتاج محاورين من صفوفها يتحدثون باسمها ويطرحون مطالبها. فكان أن أنتج نفس واقع ما قبل الاستعمار.
فقد تحركت في الريف مجموعات قبلية داخل إطار تقليدي يمتح من واقع السيبة، هيكلة ووسيلة، تؤطرها قيادات متناقضة الرؤى والغايات. وقد جمدت عناصر الحركة الشعبية دورها مع نداء الملك الأول في نونبر 1958، ومعه هدأت عدد من القبائل. بالمقابل تواصل احتجاج بني ورياغل، المؤطرة بعناصر من الخارج، مما دفع المخزن إلى العنف. وغابت القبيلة في الحالة الثانية وبرزت في الواجهة فئات اجتماعية جديدة، إذ كان المنطلق إضراب تلاميذي منظم، غير أنه انتهى بحوادث تخريبية، بعد التحاق عفوي من فئات معدومة، اقتنصت لحظة الحرية تلك، لتفجر عن الكبت النفسي المتراكم بفعل القهر والحرمان. هذا من دون أن تكون هناك خلفية أيديولوجية أو صراع الطبقات أو البحث عن الثورة، أو تحضر المعارضة السياسية أو نخب البلاد. بل إننا نتبنى أطروحة البادية الممتدة، فمعظم ساكنة حواضر الاستقلال لا تعدو غير “فسيفساء” قبليّة، وجدت عناصرها نفسها قسرا داخل المدينة نتيجة تأزم أوضاع البوادي، لكن دون أن يتحقق لها الاندماج الثقافي أو المهني. وكانت الدار البيضاء أكثر المدن المغربية تجسيدا لهذه الاختلالات، بعد أن تضاعف عدد سكان المدينة بمعدل 6% سنويا، حيث كانت تستقطب كل سنة ما يفوق 20.000 مهاجرا.
واستند تحرك الجيش لتوجيه سري من مدير الديوان الملكي، الجنرال محمد المذبوح، وتنفيذ من مدير مدرسة اهرمومو، الليوتنون كولونيل محمد اعبابو، عبر قوات كثيرة العدد قوامها طلبة تجريبيون كان يجهلون ما هم فيه ولم ذلك. بل منهم من جهل حتى صورة الملك وملامح قادة البلاد. انغمس الحدث في فوضى مطلقة، حتى قتل الجنود بعضهم البعض عن طريق الخطأ. وغاب تصور دقيق لسيناريو الانقلاب وبدت في الصورة معالم حركة عشوائية معدمة السند أيديولوجي كان أو توجيهي على الأقل. وعادت بعد سنة حركة بنفس المعالم، إذ كان التحرك سريا وفي دائرة ضيقة للجنرال محمد أوفقير، وكان التنفيذ مضطربا من قبل الكولونيل محمد أمقران. ومع فشل العملية، سار الجنرال لمحو أثارها عبر الانقلاب على منفذيها. غير أنه كان اللامتوقع بالنسبة للجنرال، فرّ أمقران إلى جبل طارق وسقط الكومندان الوافي اكويرة في يد الدرك، فكانت تلك نهايته ونهاية عملية فوضوية ثانية.
3. بالرغم من رجّة الحماية، والتحول التدريجي من ثقل البادية إلى المدينة، ومن القبيلة إلى الحزب، ومن الحنطة إلى النقابة، ومن المخزن إلى المؤسسة الملكية (حكومة، دستور)، امتدت بعض الممارسات في التعامل مع هذه الأحداث من التي تنتمي لما قبل 1912. فقد توفرت بعض الشروط، منها الثقافة السياسية الحديثة كمحصلة للتأثر بالمنظومات السياسية الكونية، وتشرب ثقافة الديموقراطية بحكم تكوين غالبية القادة السياسيين في أوربا، بيد أن الممارسة السياسية بقيت محكومة بشروط وثقافة المحافظة والتقليد.
ويكمن تبرير هذا الواقع بفرضية ثبات النسق السياسي المغربي. إذ لم يؤد الاصطدام بالحضارة الغربية الحديثة إلى تعديل جذري في النظام القديم واستبداله بنظام جديد. بل لا يعدو ما حصل غير تحديث القديم دون تغييره جذريا، فانبثق عنه نظام أبوي مستحدث. يقود مجتمعا وعيه أبوي لا تتحكم به مقولة “الطبقة” أو “الأمة”، بل الإيمان المتوارث والقيم التقليدية، بما تحتوي عليه من طاعة أو خضوع من جهة، ورفض وكفاح من جهة أخرى. فلم يكن الملك بعد الاستقلال يجمع بين يديه سلطتين واحدة تقليدية وأخرى عصرية، بل أصبح عاهلا تقليدانيا مطلقا يستخدم وسائل عصرية. متوسلا إلى نظرية حول السلطة تؤكد على التماهي بين الله والوطن والملك. كُنهها أنه قبل أن يكون الدستور كان الملك، وقبل أن تكون الأمة كانت الأسر الحاكمة.
4. يبدو أن ما نعيشه اليوم يعتبر وليد تعثر الانتقال من الزمن الأول، ما قبل الحماية، إلى الزمن الراهن، وتظهر نتائج ذلك جلية في العطب الذي يعيشه المجال السياسي المغربي وما يترتب عليه من أزمات اجتماعية. فما نشاهده اليوم هو مشهد مركب فيه الكثير من الممارسة العتيقة التي تنتمي إلى ما قبل الحماية وفيه بعض تأثيرات زمن الحماية. وهذا التعثر هو الذي ولّد لنا استمرار التوتر الاجتماعي في شكل احتجاجات وأزمات في الحقل السياسي. تبرز من خلال النزاع حول فصل السلط، وكيفية توزيع هذه السلط بين الملك، الحكومة، المؤسسات الدستورية، والمجالس التشريعية. ومعها مصداقية العملية الديموقراطية في حد ذاتها، وما يقترن بها على مستوى طبيعة تدبير لعبة الانتخابات، سوء التدبير، غياب العدالة الاجتماعية، ضعف الحقل الحزبي، وغياب دور البرلمان.
يتبدى جليا في سياق الولاء القائم على العجز والخضوع أنه لا يمكن تصور فكرة العقد الاجتماعي. فالمجتمع في الواقع خاضع فقط لإرادة المخزن، باعتباره السلطة الأولى في البلاد، وهذه إرادة لا تحدها سوى القدرة المادية والروادع الأخلاقية. ولأن المعارضة الشرعية غير ممكنة، فإن التآمر والتمرد يصبحان البديلين الوحيدين. بيد أنه بديل يتوسل في اشتغاله بوسائل من صلب النظام القائم ذاته. فقد ظل النمط المخزني لازما لحياة الجميع، ولم يستطع كل من دخل مؤقتا في تضاد معه، الانفلات من قبضته. وكذلك كان، فحتى في حالة الحسم مثلما وقع سابقا مع القياد الكبار أو مع الزعماء القبليين الذين أعلنوا سلطنتهم وشكلوا إمارتهم. فلا يكون الأمر لأجل استبدال بنية بأخرى، بل استبدال زعامة بزعامة أخرى تعيد إنتاج نفس خاصيات النموذج السابق. ويعد التغيير داخل الاستمرار كظاهرة تبصم مسار النسق المغربي من أقوى جذور العطب المسؤولة عن هشاشة الوضع المجتمعي المنتج للاحتجاج.
لا مراء إذن أن تبدو الحالات المدروسة حركات غامضة تستعصي على الفهم، وتزداد هذه الصعوبة لأنها تحدث دون سابق إنذار وتتخللها ممارسات وسلوكات متناقضة. ففي الوقت الذي يفجر فيه بعض المنتفضين غضبهم ضد أجهزة الدولة وبنياتها، يطالب آخرون، هذه الدولة نفسها، بالتدخل لحل مشاكلهم. فكان أن حكم هذا الواقع على مطلب التغيير في الحالات المدروسة بالكمون والخبو السريع دون تحقيق المبتغى، فالمخزن لم يقبل بأسلوب الضغط، وهي مسألة تأكدت مرارا، حيث أنه كان يستجيب لأساليب أخرى تتأسس على استثمار آليات تقليدية كالزبونية والعشائرية، مما يؤسس للشخصنة بدل المؤسساتية. ففي استجابة الدولة يكون دائما التنصيص على تكريس مفهوم الهبة ضد في مفهوم الانتزاع. لذلك صان أساليبه التقليدية، يهادن، يفاوض ويناور، ومع التعنت يُعنّف ويُؤدب. يحتوي ويعيد الإمساك بزمام الوضع بشكل أقوى، ويتواصل القهر المشروع حتى حين، لترسم نفس الخطاطة منطلقا ومآلا، وتأمّل ما اعتمل فيما بعد 1975 حتى اليوم يكشف عن هذا المسار.
أطروحة جد متميزة في موضوع شيق لباحث شاب له مستقبل زاهر في ميدان التاريخ ان شاء الله. تحياتي الخالصة لكم أستاذ السي ابراهيم الغالي