محمد حبيدة، تاريخ أوربا. من الفيودالية إلى الأنوار، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2010
ملاحظات أولية
حين نضع هذا الكتاب في سياق التأليف التاريخي المغربي، فهو يتميز منذ الوهلة الأولى بثلاث إيجابيات لا جدال فيها:
أولا- استثمر محمد حبيدة تجربة عشرين سنة من المحاضرات الجامعية بكليات الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة والرباط والدار البيضاء / ابن مسيك. وهذا الانتقال من التدريس إلى التأليف يكاد يغيب عند مؤرخينا، كما أن مؤسساتنا الجامعية لا تبذل أي مجهود لتشجيع هذا النوع ولا تعي بأهميته في الرفع من مستوى مضمون ما يتلقاه الطلبة من معارف.
ثانيا- خاض المؤلف تجربة كتابة تاريخ أوربا، خلافا لانزواء جل مؤرخينا في كتابة تاريخ المغرب. وفي هذا المستوى نحن أمام مساهمة تغني المكتبة المغربية بل والعربية بشكل أعم، لأن جل المؤلفات المتوفرة حول موضوع الكتاب تغلب عليها السطحية، وتعتمد على مراجع متقادمة. والواقع أن المؤلف، وإن عبر خلال السنوات الأخيرة عن اهتمامه بتاريخ التغذية في المغرب، فإن البوادي الفرنسية في العصر الوسيط كانت موضوع الأطروحة التي دشن بها مساره في البحث التاريخي، كما أنه تابع مستجدات تاريخ أوربا من خلال ترجمته لعدد من الدراسات التي تعرٍّف بالتيارات الأوربية المعاصرة في مجال البحث التاريخي.
ثالثا- اتبع المؤلف منحى التركيب الذي لا يخلو من الصعوبة. ولا يعني التركيب في هذه الحالة الاقتصار على الإيجاز واختزال مراحل تاريخية كبرى في تأليف صغير الحجم، بل إن هناك خيطا رابطا يصل بين مختلف فصول الكتاب، وهو إعادة النظر في التصور الذي ما زال شائعا عند عموم القراء وعدد لا يُستهان به من الباحثين، ومفاده أن النظام الفيودالي كان نظاما مغلقا، وأن انتقال أوربا إلى الحداثة كان بمثابة قطيعة مع “العصر الوسيط” الذي عرف تراجعا شاملا بعد انهيار عصر الرومان. فخلافا لهذا التصور، يبين حبيدة أن عصر الفيودالية عرف انطلاق التحولات التي أدت فيما بعد إلى النهضة والأنوار.
المنظور الاسطوغرافي
ينطلق الكتاب بفصل خصصه المؤلف لـ”مفهوم العصر الوسيط”. ومعناه أن ننظر إلى هذا العصر كملف معرفي عرف تراكُم الأبحاث واختلفت حوله الآراء. وقد نبهنا حبيدة إلى عدة قضايا. فبصدد المجال المعني، سادت مصطلحات مثل “الغرب المسيحي”، و”مفهوم الغرب يتحدد لدى المؤرخين الأوربيين من خلال التضاد الثقافي مع الشرق الإغريقي وليس الشرق الإسلامي، أي مع الجهة الشرقية من أوربا ذات التقاليد الثقافية والدينية القائمة على أساس اللغة الإغريقية والديانة الأورثدوكسية” (ص. 11). ثم متى يبدأ العصر الوسيط؟ وما هي العلاقة بين العصر الوسيط وتفاعل أوربا مع المجال الإسلامي في حوض البحر الأبيض المتوسط؟ وهل نحن أمام عصر وسيط، أم عصور وسطى كما تذهب إلى ذلك المدرسة الأنجلوساكسونية؟
مقاربة شمولية
غالبا ما تقترن تسميات الفيودالية والنهضة والأنوار باختزال التطور التاريخي في أحد جوانبه: تحيل الفيودالية إلى النظام الاقتصادي- الاجتماعي، وتحيل النهضة إلى الحركة الأدبية والفنية، وتحيل الأنوار إلى الفكر الذي مهَّد لثورات القرن الثامن عشر وسقوط “النظام القديم”. غير أن حبيدة حاول أن يتتبع مختلف جوانب تحول المجتمعات الأوربية. فابتداء من القرن الحادي عشر، عرفت أوربا تحولا زراعيا، وانتعاشا في التجارة والمدن، و”انفجارا ثقافيا” من خلال مؤسسة الجامعات. وحين انتقل حبيدة إلى عصر الأنوار، بين كيف كان التحول السياسي بمثابة “انتقال من مساءلة الدين إلى مساءلة السلطة”، وأن الدولة الحديثة شهدت انتقالا “من السيادة إلى الاستبداد”، ثم كانت الثورات البورجوازية انتقالا “من نظرية الحكم المطلق إلى مفهوم الحرية المدنية”، و”من سيادة الدولة إلى سيادة الأمة”.
الوحدة ومستويات التعدُّد
أكد حبيدة أن أوربا عاشت تجربة موحدة، وهي في آن واحد تجربة تميزت بالتعدد في عدة مستويات. هناك مثلا “الإسهام المتعدد” في الكشوفات الجغرافية الكبرى التي بدأت منذ القرن العاشر مع البحارة الدنماركيين والنرويجيين، وجاء بعدهم الإيطاليون، وهيمن البرتغاليون والإسبان على كشوفات القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم تلاهم الأنجليز والهولنديون والفرنسيون.
وذكر المؤلف بأن النهضة اقترنت بحركة مغامرة وابتكار شملت مجالات الملاحة، والمال والأعمال، والعلم والأدب، والإصلاح الديني، والفكر السياسي. ورسم حبيدة ملامح التطور الفكري من خلال تشكيلة من الوجوه / النماذج. ففيما يخص ظاهرة “المثقفين الجدد” على سبيل المثال، نلتقي بالحس النقدي عند إيراسم، والتسامح الديني عند تُوماس مُور، والسخرية اللاذعة عند فرانسوا رابْلي.
وأخيرا توقف المؤلف عند مسألة تعدد التجارب. فعندما تناول نشأة الدولة الحديثة، بيَّن مثلا أن هذا المسلسل اقترن في شبه الجزيرة الإبيرية بحركة “الاسترداد” التي قادتها ممالك البرتغال وقشتالة والأراغون على حساب السلط الإسلامية القائمة في الأندلس. واقترن في أنجلترا بمفهوم السيادة على إزاء الكنيسة المركزية بروما:
“أولا: السيادة العليا، أي سيادة التاج الأنجليزي على شؤون السياسة والدين.
“ثانيا: المذهب الواحد، أي التوفيق بين البروتستانتيين والكاثوليكيين، إذ أصبحت الكنيسة الأنجليكانية في هذه الفترة بروتستانتية العقيدة وكاثوليكية المظهر. (ص. 151).
لكن مفهوم السيادة ارتبط أيضا بالسياسة المُحكمة التي نهجتها المملكة في مجال المالية والملاحة، وهي التي استفادت منها الطبقات الوسطى، فعرفت أنجلترا “ارتقاء طبقة البورجوازية المرتبطة بالتجارة ورواج الأموال من جهة، وطبقة النبلاء الصغار التي عملت على تحديث القطاع الفلاحي من جهة ثانية” (ص. 152).
امتدادات
تقتضي الكتابة التركيبية بالضرورة انتقاء المعطيات والأمثلة، ومن الصعب أن تخلو هذه الكتابة من الثغرات. ومع ذلك أود أن أشير إلى بعض الجوانب التي لم يعالجها الكتاب بالرغم من أنها تنسجم مع منطقه العام. ففيما يخص تحولات العصر الوسيط، هناك تطور المؤسسة الملكية في مستوى بنيتها ونمط مشروعيتها. وفيما يخص المقاربة الاسطوغرافية، يلاحظ القارئ أنها غيبت. أورد حبيدة ملاحظات دقيقة حول هذه الأسئلة، غير أنه لم يستحضر تحقيب العصر الوسيط من زاوية الأنثربولوجيا التاريخية. فقد صاغ المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف مفهوم “العصر الوسيط الطويل” الذي يمتد من القرن الثاني أو الثالث إلى القرن الثامن عشر، واعتبر لوغوف أن جوهر العصر المذكور لا يتمثل في النظام الفيودالي بقدر ما يتمثل في بنيات المجتمع ما قبل الصناعي. والملاحظ كذلك أن هذا المنظور الاسطوغرافي يكاد يغيب في البابين اللذين خصصهما حبيدة للنهضة والأنوار، حيث ينتظر القارئ أن يبدأ المؤلف بفصل يعالج “مفهوم العصر الحديث”. هناك خصوصيات الدراسات الأنجلوساكسونية التي تستعمل عبارة العصر “الحديث” بدل “المعاصر” (في الاصطلاح الفرنسي)، وتطلق تسمية “ما قبل الحديث” pre-modern على مرحلتي النهضة والأنوار. ومن المؤسف أن يغيب السجال الذي اخترق التاريخيات الفرنسية حول ثورة 1789 وأبعادها.
توحي قراءة كتاب حبيدة بضرورة قيام آخرين بتتبع شامل لمسألة التحقيب في المجال العربي-الإسلامي. فقد عرف هذا المجال مراجعات شبيهة بقضية “العصر الوسيط” الأوربي. فحين نشأ فكر “النهضة” في المشرق العربي خلال القرن التاسع عشر، نشأت معه فكرة “الانحطاط” السابق للنهضة، وتم ربط الانحطاط بالسيطرة العثمانية، وبدأت مراجعة هذا التصور ابتداء من سبعينيات القرن العشرين، وحصلت عملية “إعادة الاعتبار” للمرحلة العثمانية. وإلى جانب ذلك ظهرت اجتهادات فكرية تناقش مفهوم عصر الانحطاط (محمد أركون)، أو تدعو إلى التمييز داخل هذا العصر بين تراجع المجال العربي واستمرار قوة المجال الإسلامي، في إطار إعادة بناء تحقيب التاريخ العالمي (مارشال هودجسون، انظر مجلةالاجتهاد، بيروت، عدد مزدوج 26- 27، 1995).
وأخيرا يبدو لي أن كتاب حبيدة يتمتع براهنية ذات فائدة تنويرية بالنسبة للقارئ العربي. فمن جهة يساعدنا الكتاب على فهم التجربة التاريخية الملموسة التي أنتجت عددا من “المفاهيم الكونية” ذات الصلة بحراك “الربيع العربي”، وأعني المفاهيم المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان، والديمقراطية البرلمانية، والحرية المدنية، ومسألة العلاقة بين السلطة السياسة والسلطة الدينية. ثم إن فهم أحداث الحراك العربي نفسه يدعو إلى وضع نمذجة إجرائية تذكرنا بمسألة وحدة المرحلة وتعدد المساهمات والتجارب.
من إصدارات محمد حبيدة
من أجل تاريخ إشكالي. ترجمات مختارة، القنيطرة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية للقنيطرة، 2004.
محمد المنصور، المغرب قبل الاستعمار. المجتمع والدولة والدين، 1792- 1822، ترجمة محمد حبيدة، بيروت / الدار البيضاء، 2006.
Mohamed Houbaida, Le Maroc végétarien, 15e– 18e siècles, Histoire et biologie, Casablanca, éd. Wallada, 2008.
نكن كل التقدير و الاحترام لأستاذنا الفاضل محمد حبيدة، أتمنى أن يستمر على هذا المنوال فهو مفخرة لنا ونموذج يقتدى به