تقديم:
يتكون هذا الملف من الأوراق التي قدمها خمسة باحثين، ينتمون إلى أجيال مختلفة، خلال اللقاء الذي نظمته جمعية ومجلة رباط الكتب بتعاون مع “مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية” بالدار البيضاء في رابع نونبر 2021. وقد كان هذا اللقاء الحضوري بمثابة استئناف للعمل المشترك بين هيئتين تجمع بينهما أهداف مشتركة تتمثل في التعريف بالإصدارات الحديثة والمتميزة، ومحاورتها بالقراءة النقدية بحضور مؤلفيها متى أمكن.
كان موضوع اللقاء هو صدور الترجمة العربية لكتاب تاريخ العالم في القرن التاسع عشر الذي أشرف عليه المؤرخان الفرنسيان بيير سينغارافيلو وسيلفان فينير، وتولى محمد حبيدة تنسيق الترجمة العرية ومراجعتها. والواقع أن هذه الجلسة العلمية كانت لها أربعة أبعاد.
البعد الأول، يتمثل في أن المؤسسة المضيفة تزاوج هذه المرة بين إنتاج المعرفة والتعريف بالكتاب. وهي مناسبة تستغلها مجلة رباط الكتب لتوجيه تحية تقدير لاستراتيجية الترجمة التي اعتمدتها المؤسسة في مجال العلوم الإنسانية، وفق المعايير العلمية، مع إخراج الكتب في حلة رفيعة. ونشير هنا بشكل خاص لثلاثة أوراش ضخمة، وهي:
1- قاموس البحر الأبيض المتوسط. الإنسان، المجال، الثقافة، التاريخ، وقد صدر الكتاب الأصلي سنة 2016، بإشراف دِيونيجي ألبِيرا، وماريلين كْريفِيلو، ومحمد الطوزي، وصدرت الترجمة العربية بإشراف محمد الصغير جنجار، وراجعها حسين سحبان.
2- تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، وهو موضوع الملف الذي نحن بصدده.
3- العالم في القرن الخامس عشر، وقد أشرف على إنجازه باتريك بوشرون، وتولى لطفي بوشنتوف تنسيق الترجمة العربية ومراجعتها، والكتاب يوجد الآن في مرحلة الإعداد للطبع.
البعد الثاني، هو تنويه بالفريق الذي أنجز ترجمة الكتاب الذي نحن بصدده. فالإصدار الأصلي هو ثمرة عمل واحد وتسعين مساهماً. وقد ساهم في الترجمة العربية أحد عشر باحثاً من المغرب وتونس، بإشراف محمد حبيدة، الذي كان من الأعضاء المؤسسين لمجلة رباط الكتب. وقد سبق له أن ارتاد مواضيع لها صلة بالكتاب الجديد، من قبيل تاريخ البوادي الفرنسية، وتاريخ أوربا من الفيودالية إلى الأنوار، وبونبارت، والاتجاهات الحديثة في الكتابة التاريخية. وإلى جانب ذلك عُرف محمد حبيدة بمزاوجته بين الكتابة التركيبية ونشر الدرس الجامعي الراقي.
البعد الثالث، هو أن مشاريع المؤسسة تندرج ضمن سلسلة من المبادرات التي تسعى إلى إثارة الانتباه لأهمية التاريخ العالمي. وأذكر على سبيل المثال:
عبدو فلالي أنصاري وعبد السلام الشدادي، انطلاقاً من التكوين الفلسفي، واشتغلا حول تاريخ الإسلام من منظور التاريخ العالمي من خلال مارشال هودجسون وكتابه المؤسِّس مغامرة الإسلام (صدرت ترجمته العربية مؤخرا).
مصطفى الحسني الإدريسي الذي أشرف على الكتاب الجماعي المتوسط. تاريخ للتقاسم، وقد ساهم فيه باحثون من شمال المتوسط وجنوبه.
أحمد بوحسن وترجمته لدراسة روس دان حول رحلات ابن بطوطة، ويُعد المؤلف من مؤسسي منهج التاريخ العالمي.
ملف حول التاريخ العالمي أصدرته مجلة هسبريس –تمودا، ونسق مواده عبدو فلالي أنصاري وعبد الأحد السبتي.
ملف “التاريخ العالمي” الذي نسق مواده خالد طحطح، وصدر في جزأين في مجلة رباط الكتب.
البعد الرابع، يتمثل في أن التاريخ العالمي حاجة مُلحة نتعامل معها باللامبالاة. فمعرفتنا بتاريخ العالم وتيار التاريخ العالمي هزيلة لا تتجاوز الخطاطات المدرسية، بيد أنها حاجة اجتماعية ومعرفية وفكرية. ومؤرخونا ينقلون هذه اللامبالاة إلى أجيال الشباب لأن المؤرخ هو في آن واحد مُكِّون. والخوض في هذا الحقل يتطلب الإرادوية من جانب الباحثين والطلبة الباحثين والمؤسسة الجامعية (ضرورة تخصيص منح للتكوين في هذا التخصص في جامعات أجنبية).
ويتضمن التاريخ العالمي فائدتين اثنتين وهما:
أولاً- فهمُ العالم. فمن شأن تحولات الراهن أن تثير أسئلة جديدة. والقرن 21 من شأنه أن يغير نظرتنا إلى القرن الذي سبقه، وهي تمس موازين القوة، وأشكال التفاوت، وأشكال الجوائح، والأخطار المحدقة بكوكب الأرض والبشرية جمعاء.
ثانياً- فهم تاريخنا من خلال تاريخ العالم. وأشير على سبيل التجربة الشخصية أن إنجاز كتاب من الشاي إلى الأتاي. العادة والتاريخ (بالاشتراك مع عبد الرحمان لخصاصي)، كان ثمرة طرح أسئلة أنثروبولوجية الأشربة، والانفتاح على النص الشعري والغنائي، والاستئناس بالتاريخ العالمي للمنبهات، وهو مجال ساعدنا كثيراً على فهم بعض الظواهر الخاصة بالتجربة المغربية.
البعد الخامس، ويتعلق بالكتاب الذي نحن بصدده في هذا الملف. فمن أجل الإطلالة على مضمون هذا العمل أكتفي هنا باقتطاف فقرتيْن معبِّرتيْن من مقدمة الترجمة العربية:
“دراسة تاريخ العالم هي دراسة لآليات الترابط والتكامل والاندماج التي حصلت في حقبة زمنية بعينها، التي كانت لها تأثيرات هائلة على الأزمنة اللاحقة، والتي عَوْلمتْ هذا العالم ووحدته اقتصادياً وثقافياً. هذا أخذاً بعين الاعتبار نسبية هذه العولمة بالقياس إلى الثقافات المحلية التي لم تُبال بهذه العولمة أو قاومتها أو حتى تلك التي فرضت نفسها عليها”.
“في هذا الكتاب لا تظهر العولمة نتيجة لهيمنة الغرب على العالم، بل كتفاعُل بين أزمنة وأمكنة لعبت فيها أوربا دوراً كبيراً حقاً، لكن على نحو غير مؤسِّس. لقد خلق أصحاب هذا العمل مسافة نقدية مع “الحداثة” الأوربية حتى لا يهيمن مفهومها على التحليل التاريخي، ولا يفسر التغيرات انطلاقاً من الغرب وحده، وذلك سعياً لتجاوز المقاربة الانتشارية القائلة بتدفُّق التقنيات والمستحدثات والأفكار والممارسات الثورية الأوروبية باتجاه بقية العالم”.
والكتاب يتكون من أربعة أبواب، وهي: تجربة العالم، وزمن العالم، ومتجر العالم، والعالم وأقاليمه. ويضم مقالات قصيرة، ومن الصعب قراءته بطريقة مسترسلة، بل هو يستدعي قراءة متقطعة أقرب إلى قراءة القاموس أو الموسوعة، حسب المزاج وفضول اللحظة، بحيث تجمع مضامين المؤلَّف بين الفائدة والطرافة والمتعة.
وإلى جانب هذا وذاك، فالكتاب يخاطب الباحثين، والطلبة الباحثين، وعموم الطلبة والقراء المهتمين باكتساب ثقافة تاريخية منفتحة على قضايا العالم المعاصر. ذلك أنه يزاوج بين وصف الظواهر التاريخية وإعادة التفكير في طبيعة هذه الظواهر وفي المصطلحات والمفاهيم المتداولة، من قبيل الحداثة، والاستعمار، والثورة، والامبراطورية، والعولمة.