خديجة غفيري، سلطة اللغة بين فعلي التأليف والتلقي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2012.
يجب أن أصدقكم القول أنني لن أقدم هنا قراءة متفحصة مستجلية للكتاب، لأن ذلك يقتضي حيزاً وجهداً أكبر، وإنما سأحرص هنا على عرض ورقة تعريفية بفحواه من جهة، وببعض القضايا التي استحضرتها في مسار رحلتي معه من جهة أخرى.
يتضمن المؤلَّف توطئة نظرية ذات بعد مفاهيمي، حيث يطالعك فيها استقصاء لمفهوم النص في الثقافة الغربية بمفهومه التقليدي وبدلالاته التي تداولتها الفلسفات الحديثة، كالظاهراتية مثلاً. ولأن النص لا يكتسب وجوداً إلا من خلال فعل القراءة، فإنك تجد في المؤلَّف أيضاً سعياً دؤوباً لحصر مسار ذلك الفعل في الثقافة الغربية لتكتشف بأنه يلخص بجلاء مظاهر تطور الفكر الغربي. فالقارئ لم يكن في بداية الأمر إلا عنصراً ثانوياً، تنحصر مهمته في استجلاء ذلك المعنى المطلق الخفي بين ثنايا النص، ولكن ومع ما أفرزته نظرية التلقي من قيم جديدة أضحى القارئ عنصراً فاعلاً في عملية بناء النص، لأنه لا يستمد وجوده إلا من خلال القراءة. ولكي لا يطلق العنان للقارئ، فيصبح بذلك بديلاً لسلطة المؤلف في الفكر التقليدي، فقد ضبط وجوده بشروط، وأضحت القراءة هي ذلك الفعل الذي يمارسه القراء المتنوعون.
وإذا نظرت إلى القسم التطبيقي في المؤلف، فإنك تجد نقاد القرون الهجرية الأولى يحرصون على تضمين أعمالهم مفاهيم بها يحققون ألفة مع العالم، وعبرها، ويصنفونه إلى مجموعة من الثنائيات من قبيل: ثنائية الظاهر والباطن أو الطبع والصنعة، وكأن الأشياء لا تتحدد إلا بأضدادها.
ويطالعك في المؤلَّف أيضاً حرص هؤلاء النقاد على إعادة تشييد العالم عبر تحديد ماهية الإنسان ودوره؛ فهو ذلك العالم الصغير الذي بمعرفته يدرك العالم كله. إنه الذات والموضوع في فعل المعرفة.
ولأن إنسان القرون الهجرية الأولى، على الأقل، كما يتجلى من خلال فئة من النقاد، يحرص على التأسيس لقيم يأنس بها، فقد درج على استقراء فعل التأليف، يستبطن خصائصه، فوجده فعلاً مرعباً مستعصياً، لا يستقر على حال، مطواعاً تارة، ومتأبياً أخرى. فراح يستشف أسباب صعوبته وسبل نجاحه، ثم يحدد بعد ذلك وظائف الناقد المتأرجحة بين تصنيف العالم والمفاضلة بين عناصره، ثم ترسيخ القيم وتثبيتها. ولذلك لم يكن النقاد نمطاً واحداً، بل هم أصناف متعددة.
وتسترسل الكاتبة في رصد أقطاب العمل الأدبي كما تتجلى في المؤلفات موضوع الدراسة، فيستوقفها مفهوم النص. ولهذا أثارت الدراسة في البداية غياب المصطلح عن تلك المصنفات النقدية، غير أن دلالاته قد تعددت، فميزت تلك الدراسات بين إشارات نقدية تعتبر الكلام صناعة، وأخرى تراه يحيل على الماء، بل وعلى الصمت أحياناً.
ولم يغب عن القسم التطبيقي موضوع المتلقي الذي أنزله نقد القرون الهجرية الأولى منزلة سامية، فيكفي أن نشير إلى ما ورد عند التوحيدي من عناية به، لأنه هو السيد المتحكم في مسار فعل التأليف. وقد أدرجت المصنفات النقدية ضمن هذا النوع المتلقي صاحب السلطة، والمتلقي العالِم. وبموازاتهما نصادف متلقياً سلبياً يعتبر غيابه شرطاً أساسياً لتحقق فعل التأليف. ولم تكن تلك المصنفات، تبعاً لذلك، تنشغل بالفهم كشرط أساس لاسترسال علاقة القارئ بالنص، ولكنها كانت تهتم بسوء الفهم. فثمة نصوص استمدت طرافتها ووجودها من سوء الفهم، لا من الفهم ذاته. والقراءة نفسها أنواع، إذ ميز الكتاب بين القراءة كمرجعية توليدية تنطلق من معنى أولي وتستحضر عبره دلالات جديدة اعتماداً على تداعي الأفكار واسترسالها، وأخرى قدحية تحصر نفسها في معنى ظاهري، وثالثة تأويلية تتسم بالمرونة في مقاربة النص.
وهكذا فإن المؤلفة قد حاولت استنطاق مجموعة من النصوص النقدية لتظفر بما يكشف عن خصائص أقطاب العمل الأدبي، كما تداولتها تلك المصنفات.
ولا يسعني قبل أن أضع نهاية لهذه القراءة إلا أن أشير إلى مجموعة من القضايا استحضرتها لحظة تفحصي لفحوى الكتاب، أجملها كالآتي :
_ القراءة اغتراب: فلقد أثارني مفهوم إعادة القراءة la relecture، لأنه فعل تحيين تجربة النص على الدوام. وأتخيل كيف تأسرنا النصوص عادة إلى حد ترتيلها؛ فالذاكرة تعود إلى الحفظ والسماع ليطرح سؤال أساس: كيف تكون القراءة اغتراباً للذات في ما لم يعد موجوداً؟ أي: كيف تصير كل ذات قارئة مغتربة في العدم الذي تؤسسه النصوص؟
_ سلطة اللغة: في حديث لرولان بارت عن هذا الأمر، نفهم أننا لا نجيب إلا عما تطرحه علينا اللغة من أسئلة، فهي تشكلنا وتعيد تشكيلنا بمشيئتها. إن الفكر العربي الإسلامي كجهاز مفاهيمي لا يستثمر ما تمثله اللغة بكل معانيها القهرية فحسب، ولكنه مجبر على أن يبني كل فرضياته على مسلمة دينية يؤسسها نص مطلق في الزمان و المكان.
– القراءة والإيديولوجيا: لا محيد في مقاربة النص وفعلي التأليف والقراءة عن نقد جذري لإيديولوجيا الإبداع، إذ لا مجال لمقاومة ما يطبع علاقة الفكر بالواقع من تناقضات. وقد لا أجد تشخيصاً لهذا الأمر أكثر من ذلك الحوار بين المسافر وظله في كتاب نيتشه الموسوم بالعنوان نفسه، حيث لم يكن هذا الأخير يخفي رغبته في الخروج كسكين متلألئة لطعن كل الظلال المنبعثة من كهف أفلاطون.
نحن في حاجة إلى تاريخ نقدي يحسم مع الوهم ويتقلص بمعيته الظل في لمحة نور مبهرة. في العمق تتبدى القراءة كنشاط طقوسي بامتياز، إنها مقاربة للحظة الخلق الأولى بكل غموضها وإيحاءاتها. إنها التبرير الروحي لحياتنا المادية. فبدون ذواتنا المسحورة بفعل القراءة، يتعذر علينا قبول حقيقة كوننا لا نختلف عن باقي الكائنات الطبيعية الأخرى.