الثلاثاء , 12 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » رواية آخر زمن

رواية آخر زمن

Umberto Eco, Numéro Zéro, roman, Paris, Grasset, 2015.

غريب كيف أن بعض الكتاب يمرون من نصوص أدبية فسيفسائية وضاربة في التعقيد في بداية مسارهم، إلى نصوص سلسة تبدو وكأنها سهلة وممتنعة في نهاية مشوارهم. كما لو أنهم يتحسسون مع مرور الوقت طرق أسرع وأقل التواء للحديث عن إشكاليات عميقة وذات أهمية قصوى. ولعل في مرور أمبرتو إيكو من أعمال روائية مركبة مثل اسم الوردة أو بندول فوكو إلى عدد صفر ما قد يوحي بانطباع مماثل، لكنه إحساس خادع شيئا ما٠ فلابد هنا من التذكير بأن إيكو العالم السميائي وعاشق الحياة كانت له دوما قدرة كبيرة على المرور من أعمال هائلة إلى كتابة أعمدة في الصحافة تلتقط اليومي والزائف من الأشياء. والظاهر أن في الرواية الأخيرة عدد صفر، التي تتخذ من عالم الصحافة فضاء لها، ما يوحي بتقاطع ما هو جوهري مع ما هو زائف، وتقاطع ما له صلة بالذاكرة الإنسانية مع ما يرتبط بالغريزة البشرية.

 

الأدب، لعبة زائفة

قبل الحديث عن الرواية وعن النص المتواجد بين ثناياها، لا بأس لو بدأنا بعتبته، العنوان، عدد صفر بدون تعريف هكذا كما لو كان شيئا معلقا وغير ثابت. التعبير “عدد صفر” في الخطاب الصحفي يدل على العدد ما قبل الأول، ذاك الذي يجهز لجذب المستشهرين والمساندين للمشروع، غير أنه هنا بدون تعريف يدل كذلك على عدد سالب غير ذي قيمة، زائف، وكأنه عنوان لزمن أصبح فيه الخبر والنبأ دون أية أهمية، إذ يموت فور تداوله. وهذا يعني أننا بصدد رواية تنبؤنا بشيء عديم الجدوى، وتدعونا للغوص في متاهة ورقية تدل عليها صورة الغلاف.

رواية عدد صفر تسرد قصة كاتب وصحفي فاشل اسمه كولونا استأجره صحفي آخر لا يقل عنه فشلا، يدعى سيميي، اكتراه بدوره الآمر، وهو شخص ذو نفوذ ومال، لإعداد ونشر اثنتي عشر عددا لجريدة تحمل اسم “دومان”/”الغد”. لكن المثير في الأمر هو أنه لا يريد أن يكتب لهذه الجريدة أن ترى النور، والأنكى من ذلك أنه أبقى هدا البند من الاتفاق سرا لئلا يفشيه كولونا للصحافيين. يمكن أن نتساءل :  لماذا طلب سيميي من كولونا مجاورته في هذه العملية الزائفة مقابل أجر سخي؟ لا لشيء إلا  ليكتب عن التجربة ويحكي قصته كمدير جريدة لم يكتب لها أن تظهر للوجود، وليقدمه كبطل منهزم. فالمسألة وما فيها أن الآمر وسيميي وجهان لعملة واحدة عنوانها خداع الآخرين، للتباهي وربح القدرة على التأثير. والعجيب في الأمر، وهنا تكمن عبقرية الكاتب ودهاءه، أن الخط التحريري لهذه الجريدة الافتراضية الورقية هو ابتكار أخبار مغلوطة وإعطاء القارئ الإحساس بأنها عين الصواب. غير أن إنشاء أخبار زائفة وإيجاد ذريعة لتقديمها على أنها صحيحة يستدعي التحري والبحث الجدي. وهو ما يجعل من صلب الرواية نقاشات سفسطائية عن الحقيقة، والكذب، والخيال، والذاكرة، والإعلام، والتمويه، وما إلى ذلك من أبجديات العمل الصحفي.

التراجيديا المضمرة

الرواية كذلك فضاء هلامي يؤثثه صحافيون فاقدون للعزيمة، وفي حاجة إلى إيجاد وازع جديد للعمل والبحث عن الحقيقة الضائعة. وسط كل هذا، يبدو بوكاديشيو، الصحفي المواظب والملم بالأرشيف والعارف بخبايا مدينته، عنصرا نشازا. والغريب في الأمر هو أن تحرياته ستدله على قصة هروب وموت موسوليني وتشريح جثته، وما لا يعرفه الكثيرون عن الأيادي الخفية التي جعلت وفاته تظل سرا من أسرار الدولة والمافيا، وكيف أن ذلك ظل مؤثرا في إيطاليا حتى عقد الستينيات ومقتل ألدو مورو، وملابسات بروز وانتهاء “الألوية الحمراء”.

المذهل في الأمر أن كل هذه الخيوط تتناسل بشكل عارض، إما من خلال تلميحات موكاديشيو أو نقاشات كولونا مع حبيبته مايا، وهي الصحافية التي لم تجد لها موطئ قدم في تجربة “الغد”. غير أن ما يظل بمثابة لعبة أقنعة ومواراة يتمادى فيها سيميي في رفض البوح بالحقيقة والبحث عن أنصاف الحلول، ستصبح فيما بعد أصل التراجيديا، مع مقتل موكاديشيو بشكل غير منتظر واضمحلال مشروع سيميي الخائف، وكولونا الذي لم يعد يجد معنى لهذه التجربة غير المحمودة العواقب.

فالمثير في عمل إيكو هذا هو أنه يزاوج بين الهزل والخداع والمأساة، بين التلاعب بالحقيقة والتلاعب بالأدب. لا شيء يستوي هنا سوى حب المسالك الغريبة لإفشاء طبيعة الإنسان. فهو يتحدث عن غرائز الرأسمالية المتحكمة في آليات صناعة الترفيه، وعن أصول الإرهاب وعلاقته بشبكات المال والاستخبارات، ونهاية عصر إنتاج الخبر اليقين، وظهور جيل جديد من الصحافة يهتم بما يسمى اليوم “ما بعد الحقيقة”، أو “الوقائع البديلة”، كما أن الرواية، بالموازاة مع كل ذلك، تظهر ما يبديه الإعلام الجاد من مقاومة لوسائل التمويه، مع كل ما يترتب عن ذلك من مخاطر للصحفيين على أرض الميدان.

ما مآل الحقيقة؟

من باب المقارنة، كتب المؤلف النرويجي هنريك إبسن سنة 1882 مسرحية بعنوان عدو الشعب، وهي تحكي قصة شخص توصل إلى حقائق قد تودي بحياة الأشخاص القاطنين في بلدته ويقرر نشرها في صحيفته، ورغم أن كل ما حاول نشره صحيح بل وذا أهمية بالغة للعموم، فإن أصحاب النفوذ ومدير الجريدة وأقربائهم استطاعوا تأليب الناس ضده، واعتبروه عنصرا يهدد استقرارهم، فانتهى به المآل كشخص منبوذ.

أذكر هذا النص لأقول إنه ارتباطا بمسألة الصحافة والبوح بالحقيقة أو بالعلاقة مع أولي الأمر، كل ما عرفه القرن العشرون من تطور ورغبة في تحقيق العدالة وإفشاء الحقائق، يتم التراجع عنه، بل وتطوير الحقائق في اتجاه مشوه  ومريب. وإن كان إيكو قد برع في إظهار هذا التحايل، فإنه تمكن من إشعارنا به دون مبالغة أو تأنيب. فقط كأحجية مسلية و خطيرة في نفس الآن.

فالكاتب لا يعطي أي خيط أو دليل على أن له موقفا أخلاقيا محددا، وهنا تكمن القوة الأدبية لهذا النص، في كون الأشياء الزائفة تدلنا في حد ذاتها على حقيقة مضمرة.

خلاصات من بين ثنايا النص

إن هذه الرواية بقدر ما لها قدرة على استشراف عصر زائف ومخيف، بقدر ما لها قيمة التأريخ الموازي لزمن ولى. تأرجح عدد صفر بين ذاكرة القرن العشرين الدموية والمنكوبة بالإيديولوجيات، وإرهاصات قرن المصالح الذي لا مكان فيه لثوابت واضحة، يدل على أنها في منزلة بين المنزلتين. ومن هذا المنظور، فإن نص عدد صفر فلتة أدبية فريدة أو ربما وصية أدبية بليغة.

ما الذي تبلغنا به هذه الرواية في نهاية المطاف؟

أولا: بأن الكذب في الأدب قد يكون أبلغ وسيلة لبلوغ بعض الحقائق.

ثانيا : بأن “إيروس” و”طناطوس”، الحب والموت، سيظلان ركنا من أركان الإبداع، وأن ما يعطي لعمل أدبي قيمته هو القدرة على نسج خيوطهما، وتوظيفهما في ظرف ومكان وعالم معين.

ثالثا :  بأن الأديب، بمعنى الذي يدعو إلى المأدبة، يكون موفقا حين يقدم أطباقا لا يمكن للناس أن يتوقعوا من قبل قيمتها ونكهتها إلا عند تجربة عمل القراءة والتصفح المنهجي.

وأخيرا : بأن أمهات كتب الأدب هي التي تستطيع أن تجعلنا نستشف جوهر الأشياء مما هو عابر ومبتذل، خصوصا حين تحاول إبراز معالم زمن آيل للأفول.

 

- ادريس كسيكس

كاتب / الرباط - Ecrivain-chercheur / HEM

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.