السبت , 20 أبريل, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » العبور إلى ضفاف زرقاء أو استحالة العبور مدخل إلى مقاربة نصية

العبور إلى ضفاف زرقاء أو استحالة العبور مدخل إلى مقاربة نصية

محمد بنيس ضفاف زرقاء، نصوص، تونس، تبر الزمان، 1998

ليس هذا النص إلا مدخلا لمقاربة، اخترت لها جزء من كتاب العبور إلى ضفاف زرقاء، وهو الجزء الذي يتضمن نصوصا ثلاثة هي: “الطريق إلى القدس”، و”صرخة الضوء”، و”هواء لرباعيات الألوان”.

لم يتم تصنيف هذا الكتاب ضمن الديوان الشعري بل يضعنا الغلاف منذ الاتصال الأول أمام عبارة “نصوص”، فنفهم أننا نلج عالم الكتابة بمعناها الواسع والعميق، وأن النص المفتوح على تعددية الشكل والبناء دون صرامة التجنيس الأدبي سيكون سيد الرحلة. الفرضية التي أصدر عنها هي أن هذه النصوص يضيء بعضها بعضا ويحاور أحدها الآخر، ويعبرها خيط شعري موضوعاتي واحد هو: القدس بين العبور والاستحالة، وتختزنها خلفية تجنيسية هي كسر حدود الجنس الضيقة وفتح الكتابة على شساعة المعنى ولانهائية التخييل. بهذا المعنى لا أضع حدودا بين الشعر والنثر، فتكون القصيدة مدخلا لمفهوم الكتابة باعتباره مفهوما جامعا لانبثاق المعنى وكثافة الصورة وإحالية الدلالة وحضور المحكي.

استحالة العبور

في قصيدة “الطريق إلى القدس”، تتقدم الجملة الأولى: ليس من طريق إلى القدس، باعتبارها بؤرة النص وإضاءة للعنوان وتوسيعا للمعنى الأولي الذي تقدمه كلمتا: “طريق” و”قدس”. وهي كذلك مدخل إلى تتميم المعنى وبناء المقصد من خلال تتمة الجملة: غير غبار من الكلمات. وهنا تحضر الاستعارة التي تقوم بتبيان استحالة الوصول والخيبة واللجوء إلى الكلمة التي تقاوم تصعيد الأزمة من خلال الكتابة، لتكون الصيغة هي أن الطريق إلى القدس تصنعه الكلمات عوض أن يحققه الجسد، فهو سفر بالفكر والشعور. غير أن ما يلفت الانتباه هو عبارة “غبار من الكلمات” التي تزيد في تأكيد فرضية البناء الاستعاري. ف”الغبار” دلالة الاستحالة والزوال والمرور، و”الكلمات” ملجأ لتعويض الخيبة في استحالة الوصول. إنها وعاء المعنى الذي يجعل الرغبة في الوصول إلى القدس تتحقق ولو في الحلم.

تتأكد هذه الدلالة حين نقرأ الفقرة الأولى من النص الثاني: “صرخة الضوء” وأنا المسافر إلى عمان.. لن أزور القدس

زمنان متباعدان ومتجافيان

في إشارة إلى ابن بطوطة زارها: وهو يزور القدس أكثر من مرة

يضع الشاعر في هذا السياق تقابلا بين موقعين: الأنا ابن بطوطة لم يزر القدس لن يزور القدس الزمن السلبي زار القدس زارها أكثر من مرة الزمن الإيجابي

وتزيد هذه الدلالة في التأكد حين يتكرر المعنى في صيغ مختلفة:

ومع ذلك لن أزور القدس ص 20

في هذا الزمن تمنع علي زيارة القدس أو اختراق معبر من المعابر إلى سهول وتلال فلسطين التي لا أستطيع تذكر طيوبها

سأكون بعد هنيهة قريبا من القدس. وسأتاكد من أنني لن أزورها هذه المرة ص 21

إن الاستحالة التي أشرنا إليها من خلال الجملة الأولى في النص الأول وخصوصا صيغة النفي: ليس لي، والاستثناء: غير، تتضح بقوة في النص الثاني من خلال صيغ التمني والامتناع عن التحقق:

لوكنت ضوء أو هواء لانتقلت إلى هناك، مع أول قطرات الشفق، أرافق الأشجار إلى مائها والسماء إلى أبدية يتحسر عليها الفانون ثم أهيئ للوداع طقوسه في الوقت المناسب… ص 20

فاس والقدس: الضوء والحلم

لا يكتفي الشاعر بتشخيص طقس الاستحالة المؤلمة في النصين بل يعمد إلى لاستحضار الجوار والتآلف والاقتران بين أماكن متباعدة في الجغرافيا لكنها قريبة في الوجدان والتاريخ والحلم أيضا. ومن هنا تحضر فاس وقرطبة وتحضر النباتات والطيوب والألوان: يقول في النص الأول ص 13: رأيت الطريق على صفحة من كتاب

رأيت الأناشيد تخرج من قرطبة

وتعبر فاس

فأي المعارج تستقبل الوافدين

وأي يد تركت نارها

بين باب

وباب؟

الطريق هنا لم تعد طريق القدس المستحيلة فقط لأن اللجوء إلى الكلمات خلق طريقا جديدا يصوغها الحلم والتقارب في طقوس التاريخ: تحضر الأندلس أولا في قرطبة، وتحضر الأندلس ثانيا في فاس. وهو الأمر الذي يؤكده النص الثاني حين يقول ص 20:

“فاس تلازمني، منذ الطفولة الأولى، بطيوبها وألوانها. قرنفل. سوسن. مسك الليل. ثم ذلك الغنباز الذي ترفعه الشراجب والسطوح هبة للشمس. ولكن فلسطين أتذكرها باللغة وقليل من الصور. أبواب تتسامى في الهواء. قباب يولد من داخلها ضوء رحيم. أسوار لمنازل ومدن لصوامع وأبراج، لأضرحة وأديرة، تختزن ذاكرة المتعاقبين على الحمد والشكر. وأنا مستودع الطيوب التي تغزوني. الطيوب جيش لا يقتل. بحكمة تنفذ إلى المناطق الخفية في الجسد. وهناك، في العتمات المجهولة، تشمني بضوئها. لا غزَّارة ولا إبرة ولا سُخام. نسيج الخلايا يهتبل بالهلاك، عصفا يشوش الأنفاس حتى تكتسي بسكينة لا هوادة فيها. بهذا ينتسب كل بلد، في جسدي، إلى طيوبه. وفلسطين لغة وقليل من الصور”.

نلاحظ هنا أن حدود الشعر والنثر يتم اختراقها بمفهوم أشمل هو الكتابة في بعدها العميق الجامع. فالنص الذي يحكي الشاعر داخله يتحول الحكي فيه إلى لحظات شعرية قصوى يتقاطع فيها الحكي والصورة والحلم والتذكر. وهو ما تؤكده الآثار إلى تجنيس الكتاب، فتحت العنوان في صفحة الغلاف العبور إلى ضفاف زرقاء نقرأ عبارة “نصوص” كما سبق الذكر، لندخل توا إلى عالم انفتاح النص على كل مستويات الكتابة. ويبدو أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالنص الثاني “صرخة الضوء” يتوسط بالمعنى التجنيسي الضيق نصين شعريين هما “الطريق إلى القدس”، و”هواء لرباعيات الألوان”، حيث نقرأ ما يعيدنا إلى مناخ النص الأول (استحضار القدس واستحالة الوصول إليها)، ومناخ النص الثاني (استحضار المكان والنبات والطيب والشعر). يقول:

نذرت لك احمرارا ناريا يسعى به الغنباز

شموعا سبعة

أعطيت ما يسبيك شمسا حرة

ومثلثا سميته الإعجاز

فيا طفلا يطيع اللون من قدس

إلى قدس

بأي يد نقرت صباح قرطبة وأنت تضيع في الأهواز؟

“هواء لرباعيات الألوان” ص 53

هنا نلاحظ ما يلي:
يحضر الغنباز ليجعل فاس حاضرة بعمق من خلال فضائها ونباتها (مسك الليل والسوسن والقرنفل والغنباز الذي يتكرر مرتين)، والغنباز الذي يتكررمرتين: الغنباو هبة للشمس، الغنباز يضيء شموسا سبعة، الغنباز يحقق التحرر والانعتاق:

أعطيت ما يسبيك شمسا حرة ومثلثا سميته الإعجاز ولكي لا يكون كلامنا هباء فالنصان الثاني والثالث يقرنان بين عنصرين أساسيين جامعين للطيب والضوء:

أما الطيوب التي كانت تصاحبني فلعلها طيوب الدفلى والوزال والزعتر، أو لربما تلك التي أعشقها أكثر بين سوريا ولبنان. القهوة بالهيل، بمحاذاة أزهار الياسمين. النص الثاني ص60

أنا من بلاد تعودت أن أتصفح فيها دم القراء

وفي كل لون دم الشعراء

يصادق ليلا مضيئا يراه الغريب

وفي كل لون مرابط عين

نوار ونور ألاحق ما يتردد بينهما شهقة للعجيب

وفي كل لون قليل من الشمس أو قطرة من قمر

يحف الذراري بنا ومعا نتراسل باسم الحبيب النص الثالث إن من يقرأ النصوص الثلاثة في تسلسلها وترابطها يلاحظ أن معجم الضوء يبدأ نواة صغيرة في النص الأول “شمس المعاني، بالبقايا التي أنقذت نجمات البحر الميت”، لتكبر هذه النواة في النص الثاني جامعة الضوء واللون منذ العنوان والسطور الأولى “لو كنت ضوءً”، ثم تنساب عناصر الضياء في كل النص:

– وتسرب خيط من الضوء بين الأشفار ص25

– وأعلام بألوان قوس قزح… ص26

– الشمس ربيعية ص27

– السماء أحواض عشب أزرق ص27

– ظلال الأرجوان بدم الذبيحة ص43

– الضوء يزداد انتشارا … بياض وصفرة يتمازجان. ظلمة منقطة بضوء يكتسح البعيد ص45

– القدس بأطيافها … تتجمع في ضوء هتوك وتميل نحونا ص46

– والقدس ضوء يتبقع في الأفق. عناقيد متعالقة في تطويق أحلافها. والمنحنى يخفي أضواء أتقدم بالحواس إلى طبقات أجراسها. ضوء لعلو هذه القدس التي لن أزورها. وأنا هنا. ضوء يستأثر بصرك ووجهك حتى تنسى هندسة ما تبقى من مدن الأرض. ضوء لقسطك المحرم. ضوء علق على خشبة. ص46

– أجل لقد أصابني الضوء ص49 ويتأسس المعنى شعريا (الضوء واللون) وبكثافة قوية في النص الثالث ومنذ العنوان أيضا: “هواء لرباعيات الألوان”:

إليك الشوق مرتحل

يوسع ضوءه

شك بلون التيه مكتمل

وهذا البدء عاشقة يبللها الشحوب وتبدو الخلاصة هنا في اجتماع عناصر أساسية ضمن عنصر مولد جامع محقق للحمة المعنى داخل استحالة الوصول، هو عنصر الكتابة والشعر ودم الشعراء. وتكون العناصر المتناسلة عنه هي:

أ – اللون: دم الشعراء. ولا يقف اللون عند هذا الحد فالعنوان في النص الثالث “هواء لرباعيات الألوان” ص61، يعلن عن فسيفساء اللون وحميمية الاجتماع:

خذ هذا الإناء وضع فيه ماءك لا تنشغل بما يرد عليك من الألوان بالماء اخلط ماءك لن ترى لون مساء يطفح إلا بلون الإناء عنابي نبيذي أصفر خوخي أزرق بحري أخضر زجاجي ثم اقرأ كواكب الجنوب في حضرة سلم الألوان.

ب – الضوء: ليلا مضيئا يراه الغريب

ج – الطيب والضوء: نوار ونور ألاحق ما يتردد بينهما شهقة للعجيب

وإذا عدنا إلى المقطع السابق في نص “هواء برباعيات الألوان”: نذرت لك احمرارا ناريا يسعى به الغنباز، فإن تحليلنا سيتجه إلى مستوى آخر من التأويل لا ينفصل عن معنى الاستحالة التي أشرنا إليها منذ البداية، بل يعضدها ويعمقها ولا ينفصل كذلك عن التداعي الذي تخلقه القدس في الذاكرة فتستحضر أمكنة أخرى تتآلف معها شعريا وتاريخيا: فاس التي تحيل عليها زهرة الغنباز، وقرطبة التي ينقر الطفل صباحها، والقدس التي جعل الشاعر ضوءها غنبازا في قوله:

القدس بأطيافها تقترب منا. تتجمع في ضوء هتوك وتميل نحونا. أطراف مجوفة تلتحق بغيرها. أضواء تغالب وهن المسافات. وغنبازا يتفتح الضوء بأسراره الفاتكة. عهود من الضوء ص46

إن ما نقصد هنا الإشارة إليه هو دور الاستعارة في عملية البناء، وفي تأكيد السياق الموضوعاتي المشار إليه آنفا، فالغنباز مقترن هنا بالاحمرار الناري – فهو زهرة فاسية ذات سلم من اللون البرتقالي – وبالشموس السبعة وبالشمس الحرة وبالإعجاز متجاوزا وضعه الاعتيادي في سلم التسميات والتعريفات إلى وضع النور وإعجاز القصيدة. كيف نفهم هذه الإسنادات (سعي الغنباز باحمرار ناري، وثمن السبي شمسا حرة) إن لم يكن التأويل الاستعاري ملجأ لفك الالتباس. فالغنباز نور يسعى ويحيا، وشمسا حرة مسبية هي ثمن السبي، والقصيدة المعجزة هي بديل السبي. لا ننسى هنا أن هذه القصيدة تندرج في مناخ دلالي يبنيه الجزء الأول من الكتاب هو استحالة عبور الضفاف الزرقاء إلى القدس المسبية التي تحتاج إلى من يحررها ويعيد إليها الحياة. وهو الأمر الذي وضعنا فرضيته المركزية منذ الجملة الأولى من قصيدة “الطريق إلى القدس”، وأكدناه من خلال الجمل المتناثرة في نص “صرخة الضوء”.

تقاطعات المكان واستحضار الذاكرة

يتأكد التقاطع بين الأمكنة واستحضار الذاكرة التي تحقق في لحظة ما انصهار المكان حين نقرأ في الصفحة 13:

رأيت الطريق على صفحة

من كتاب

رأيت الأناشيد تخرج من قرطبة

وتعبر فاس

فأي المعارج تستقبل الوافدين

وأي يد تركت نارها

بين باب

وباب؟

ثم نقرأ في الصفحة 16:

طريق سمعت اللغات

على كل أحجارها

تردد

هل أبدي ضاق عنه الأبد

وتخطفني موجة

من وجوه

تضيع

أمامي قوس وسنبلة وجسد

مسالك تقذف صرختها

جسد

ربما ضاق عنه الجسد

تظهر هنا قوة المجاز في بناء عملية التحول من الواقع المستحيل إلى اللغة الممكنة، ومن الخيبة على المعنى، ومن ضيق الاستحالة إلى سعة الحلم. وتتأكد الاستحالة والجرح والخيبة في الصفحة 17 كذلك حين يقول:

من قدس الله إلى قدس الجرح سعيت

ارفع أقواسك للعلياء

فانا من أسفل العالم جئت إليك

مكدودا

تحملني الأشلاء

ليل

نجمات البحر الميت

صمت أتبعه

ورعاة في أقصى الموت

لا غالب إلا أنت

نبضاتك منها كنت أطل عليك

وفي النص الثاني تتأسس الاستحالة عبر الحكي والشعر تصاعديا: نتوجه إلى الجسر وبعده نتوجه إلى مكان على شاطئ البحر الميت نقضي النهار ونطل هناك حتى المغيب فتوقد أضواء الشاطئ المقابل في فلسطين وأضواء أريحا والقدس. كل الأرض تتوقد اضواؤها. ص24

أريحا على اليمين. قبالتي القدس. وابن بطوطة لم يمر من هنا. كانت طريقه أيسر عبر غزة أو دمشق. كان يركب مع الراكبين ويقتحم العواصف والبخار. يصلي ركعتين حين يشاء وزوادة الماء لا تفارقه.وابن بطوطة، الآن يشم طيوب الأرض الفلسطينية مما ليس لعينين أن تراه من عشب وأزهار وغلال… ص39

ويستقر عمق الاستحالة في الصفحتين 46 و47 حين يقول:

والقدس ضوء. يتبقع في الأفق. عناقيد متعالقة في تطويق أحلافها. والمنحني يخفي أضواء أتقدم بالحواس إلى طبقات أجراسها. ضوء لعلو هذه القدس التي لن أزورها، وأنا هنا. ضوء يستأثر صدرك ووجهك حتى تنسى هندسة ما تبقى من مدن الأرض. ضوء لقسطك المحرَّم. ضوء عُلق على خشبة. القدس هناك. وهذا الضوء آية. اطو خريطة الكتب واتبع خريطة الضوء. مسالك الضوء مطيعة. عُلوٌّ ينحدر في صحن من الضوء. سفينة لغبور الحلم وحراسه. مهد لأحفاد الليل والنهار. والقدس بين قمتين هادرتين. تكتمل في ضوئها وتتابع النزول إلى الماء. القدس. القدس هناك. ضوء في الأعالي. معلَّق على خشبة.

المفهوم الواسع للكتابة وانفتاح الشعر

إن ما بدا مميزا للكتابة في هذا الجزء الأول من العبور إلى ضفاف زرقاء هو أولا الاختيار التجنيسي المفتوح منذ صفحة الغلاف (نصوص)، والتي تجعل الكتابة تنفتح على تعددية الجنس وتجاوره وتقاطعه، غير أن التميز الجوهري في القصيدتين الأولى والثالثة هو تقنية حذف الروابط التي سبق أن لفتت انتباهي عند تحليل قصيدة “مستحيل” والذي تبين لي بعد تأمل شامل لأعماله الكاملة أنها تأسست عند محمد بنيس منذ نشره لورقة البهاء 1986، واستقر فيما بعد اختيارا شعريا في الكتابة في هبة الفراغ وكتاب الحب، والمكان الوثني، ونهر بين جنازتين.

أقرأ في “الطريق على القدس” ص14:

طيور تذكرني بالمهاجر

شمس المعاني

على رفة من جناح

تذكرني

بالبقايا التي اتقدت

ورياحْ

تسلمني للشتيت

إذن

من يسر إلى الطريق

ومن يتوجع في ذبذبات الصباح

وفي ص58 من قصيدة “هواء لرباعيات الألوان”، أقرأ:

عمق يصالح طيشه يَدَع المعادن

بذرة تنحل تحت سماء طفل

قادم من كل شهوته هواءٌ

يستطيب هلاله ويصب ماءَ

الشوقِ في غرب يبادل بالصَّبا

عشرات أعمدة يعددها انكسارُ

أشعةِ فتقوده الحسنى إلى النهوند

ينتفي في هذين المقطعين، كما في المقاطع الأخرى كل أثر للأرقام أو علامات الترقيم أو أدوات الفصل والوصل. وينفتح فضاء النص التركيبي والدلالي على شساعة البناء اللغوي المنساب نحو نموذج جديد للتخيل دون أن تحاصره أدوات البناء المتداولة. كل النصوص التي تبنت هذا الاختيار أحدثت قطيعة رمزية مع نموذج البناء الشعري القائم على الروابط التقليدية في الكتابة. أشار محمد بنيس إلى هذا الأمر في مقدمة الأعمال الكاملة:

“وفي هذه القصيدة صيغة عمل. تنتفي المقاطع. الأرقام. العناوين. علامات الترقيم. ولا يشتغل في القصيدة غير المكان. الأبيض. الذي يتوزع بين الموزون وما ليس موزونا. يعيد بناء القصيدة من صفحة إلى صفحة وهو يتعدد ويمحو ذاته فيما هو يعيد كتابتها. قصيدة البياض أو هي قصيدة البصر.” ص23

ورغم أن هذا الكلام جاء في سياق حاشية على ورقة البهاء، فإنه لا يخلو من أهمية تنطبق على باقي الاختيارات الشعرية لأنورقة البهاء كانت النواة التي أسست لنموذج شعري يقوم على حذف الراوابط. ويقودنا هذا الكلام أيضا إلى الانتباه إلى مسألة شعرية تمس توزيع السواد والبياض على فضاء الصفحة، فإذا كانت القاعدة الشعرية تقتضي نظام الأسطر المتعارف والذي نجده حاضرا في نص العبور على ضفاف زرقاء، فإن الشاعر اختار إلى جانب ذلك في آخر نص “هواء لرباعيات الألوان”: الشكل المتوازي عموديا من جهة، والشكل الهرمي والهرمي المقلوب من جهة أخرى، والذي سبق أن وظفه الشاعر بتقنيات أخرى في ديوان في اتجاه صوتك العمودي، والمكان الوثني.

الشكل الهرمي ص 59:

يا

أيها الليلكي

الليلي أيها الأزرق

الفيروزي هذه الحشائش

تبتلي أرضا بتراكيب مربعات

لا شبيه لها في النهار ولا عدو لها في

الليل حيِّ بها ابن قرة في صداقة المنفى

الشكل الهرمي المقلوب (آخر النص) ص 62:

جسد يستسلم أخدودا أخدودا آخرةُ

اللَّيْلَك حُمَّاكَ لَها الحاءَ انشطرت

ولها الميمُ الدموية يا أختَ

الليل انصرِفي نهرا ومُقامًا

حتى ينشأ ترتيلٌ

فَبُروجٌ يبلغها النسيا

نْ

حين يبدأ المقطع الأخير بالشكل الهرمي، وينتهي بالشكل الهرمي المقلوب، فإننا نقف من حيث ترتيب السواد والبياض على الصفحة أمام إعادة تأويل بصري ونفسي لدلالة الهواء وكأن صعود النفس يبدأ مع: “يا أيها الليلكي…” ويستقر في أقصى الرئتين لحظة يبدأ الهبوط التي تقف عند: “يا أخت الليل انصرفي نهرا ومقاما حتى ينشأ ترتيل فبروج يبلغها النسيان” بصريا نكون أمام نواة تكبر لتعود عبر هيئة دائرية واسعة على وضعها الأول، وضع النواة الأولى “التي يبلغها النسيان”، ونفسيا نكون أمام شهيق وزفير يعكس عمق الاستحالة التي جعلنا منها فرضية المقاربة الأولى لهذا الجزء من العبور على ضفاف زرقاء.

الكتابة: النص والانفتاح في النص الثاني “صرخة الضوء”، الذي يتوسط “الطريق إلى القدس” و”هواء لرباعيات الألوان”، نلاحظ بدء أننا أمام نص حكائي بامتياز لكن سرعان ما نندهش حين الصفحة الأولى لندرك أن رحلة الطائرة نحو عمان ولقاء محمود وإلياس وزيارة الجسر والبحر الميت، ما هي إلا تركيبة سردية تتجه نحو النص الشعري المفتوح بالمفهوم الواسع للكتابة وتتجه ثانيا نحو إعادة بناء المعنى الذي نستشعره في النص الأول وهو استحالة عبور ضفاف البحر الميت نحو القدس. خيبة لا يزيدها جرحا سوى ذلك الإحساس بل ذلك اليقين بان سلفنا ابن بطوطة لم يكتف بقطع الفيافي مرة واحدة، بل اخترق كل الصعاب مرات ليزور القدس التي لا يستطيع أحدنا بلوغ أرضها الآن. أي قدس يتحدث عنها الشاعر؟ هل قدس الجغرافيا ام قدس الذاكرة؟ عن الإيهام بقراءة نص عن سيرة سفر يتوقف منذ الصفحة الثانية حين يقول ص20:

لو كنت ضوء أو هواء لانتقلت إلى هناك، مع أول قطرات الشفق، أرافق الأشجار إلى مائها، والسماء إلى أبدية يتحسر عليها الفانون، ثم أهيئ للوداع طقوسه في الوقت المناسب، بين جبل التجربة ودرب الآلام، بعد أن أبلغ أحياء القدس القديمة وأتطهر بجذبة، تحت فوانيس المعابد والأضرحة، وعلى رأسي عمامة خضراء من كتان سيعرفني بها أحفاد أجدادي من المغاربة في حيهم، وأنزل ضيفا على سلالة الكنعانيين. أما الطيوب التي كانت ستصاحبني فلعلها الدفلى والوزَّال والزعتر، أو لربما تلك التي أعشقها أكثر بين سوريا ولبنان، القهوة بالهيل، بمحاذاة أزهار الياسمين.

وسيتمر البوح الشعري وجرح الاستحالة ليبلغ مرامه الأقصى حين يبدأ الشاعر في مخاطبة ابن بطوطة، وحين يجعل فاس والقدس على نفس مهب الضوء ص 48:

يا ابن بطوطة لا تسرع. أبو عبد الله بن مثبت الغرناطي يفتش عنك في “العطارين”. سيصل بعد قليل مع الحجاج النازلين من بيت لحم إلى القدس. رافقه إلى “السلسلة” لتشرب من سبيلها كما كنت تتوقف في فاس لتشرب من سقاية “النجارين”. ثم اخلد، يا ابن بطوطة، على خلوتك مع المحجوب. هناك في الضوء والرحمة.

من هدوئك، سترى يا ابن بطوطة، كيف أصابع يدي تنكسر على هذا القليل من الماء. أصابع يدي رؤياك، الليلة، فلا ترتعب مثلي. صرختي طف بها على الأسلاف وأنت تنزل “درج ابراهيم”. دلها على “جبانة” عسقلان. ولا تلق بها إلى القليل من الماء. فهم هناك وإنهم ليقتُلون. صرختي بدم هذيانها تُهاجر

والنازلون مع الضوء نازلون. من درب الآلام ينزلون. إلى القهوة بالهيل. في صرختي أراهم. إنهم هناك, على الشاطئ الفلسطيني محاصرون. والضوء مترسخ في اندفاعه. شعل وزمهرير. بعين تتحشرج في الأفق أراهم جميعا. من الأنبياء إلى الشهداء. شعب من ضوء. وأصابع يدي. وهذا القليل من الماء.

لي، الآن، هذا الضوء كله. لن تتقاسمه معي لغةٌ. ضوء في الأمشاج. ضوء في الدم. ضوء في الأنفاس. ضوء في المجهول. ضوء في ما لا يقبل أن يكتب. ضوء في الشهقة. ضوء في الخلاء. ضوء في البعد. ضوء في الصمت. أجل، لقد أصابني الضوء.

من توهم أن هذا النص سيرة سفر فقد أخطأ الطريق إلى الشعر. إنه سيرة معرفية نحو الأعلى، نحو القدس التي تستقر في مكان ما من التاريخ لكنها تستقر شعريا في ذاكرة الأنا التي تحاور ابن بطوطة، وهو من استطاع اختراق المسافة المستحيلة بين فاس والقدس. إن الخطاب في “صرخة الضوء” يبرز قوة المعنى في النص الأول وينتشر في ثنايا الحكاية التي يفجرها الشعر. غير أن ما يحفز على التأمل أكثر هو كيف يجتمع شعريا على نفس الطريق المستحيلة إلى القدس ثلاثة من الرحالة: الشاعر وابن ابطوطة والمسيح، كل منم أنجز سفره المعرفي والديني الفعلي والمستحيل ضمن قواعد لعبة لا تتشابه لكنها تجتمع أمام نفس البوابة: بوابة القدس العصية على البوح بكل أسرارها:

أريحا على اليمين. قبالتي القدس. وابن بطوطة لم يمر من هنا. كانت طريقه أسهل عبر غزة أو دمشق. كان يركب مع الراكبين ويقتحم العواصف والبخار. يصلي ركعتين حين يشاء وزوادة الماء لا تفارقه. وابن بطوطة، الآن، يشم طيوب الأرض الفلسطينية مما ليس لعيني أن تراه من عشب وأزهار وغلال. جناحان عليهما ضوء من اليشب واللؤلؤ. هو ذا ابن بطوطة يستفسر عن الأسماء. يظهر ليختفي. يقظان يمسك باللجام وجريئا يرتقي المسالك. أريحا نأى المسيح. أحفاد الكنعانيين في زمنهم هذا يستعدون للغروب… ص39

- سعيد الحنصالي

معهد الدراسات والأبحاث للتعريب / جامعة محمد الخامس - الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.