عبد الله العروي، السنة والإصلاح، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 2008
تقديم
ليس هنا المجال لنكرر صيغا بلاغية صارت تفرض نفسها كلما تعلق الأمر بأحد الكتب النظرية الجديدة لعبد الله العروي، فنقول بأن كتاب السنة والإصلاح نص غني، يعتمد اقتصادا مكثفا في الكتابة، خصوصا وأن المؤلف اختار أن لا يدخل في نقاش مع الغير وأن لا يشير إلى مراجع معاصرة وأن يُقدم رؤيته الشخصية لمسائل ولمسارات تاريخية وثقافية طويلة ومعقدة ومتعددة الأوجه، بأسلوب يعتمد الشذرات والتلميحات المبثوثة في ثنايا المقاطع القصيرة.
وبما أننا لا نتوفر سوى على وقت قصير للحديث عن الكتاب، فإنني سأكتفي هنا بجانب واحد يرتبط بالفصول الأولى حيث يعرض المؤلف رؤيته لظهور ونشأة وانتشار الدعوة المحمدية في علاقة مع المحيط المجتمعي للجزيرة العربية خصوصا الجماعات البشرية التي عاشت في الشمال الغربي لهذا الفضاء الجغرافي، باستحضار لما حصل من تحولات ثقافية وسياسية ودينية في المحيط الشرق المتوسطي، وفي علاقة أيضا بالمسار الطويل نسبيا الذي عرفته التجربة الدينية التوحيدية منذ اللحظة التأسيسية التي يرمز إليها “إبراهيم”. ذلك الوجه الذي يحتل مكانة مركزية في البناء الفكري الذي يقدمه عبد الله العروي في كتابه هذا.
صورة إبراهيم
كيف يتناول الكتاب “إبراهيم” أو إلى ماذا تحيل التسمية “إبراهيم” ؟ إبراهيم يقول عبد الله العروي هو “راموز” أو “أمثولة” “إنه ملحمة تحدثنا عن نشأة الذاكرة، عن أشكالها وتجسيداتها، عن علاقتها بالقوى الأخرى، النفسية والروحية” (ص. 56). صورة إبراهيم : هي صورة مركبة.. هي مثل كل الأساطير التأسيسية “يتلاقح فيها باستمرار الميثولوجيا والفلسفة والتيولوجيا” (ص. 57). تتداخل فيها معطيات شذرات من التاريخ الفعلي ومن المتخيل.. كما أن من طبيعة هذه الملاحم التي تحدثنا عن الأصول والتكوين والنشأة.. أن تتحول في الزمان والمكان.. فتفقد بعض عناصرها وتكتسب عناصر جديدة.. فهي موضوع إعادة تركيب مستمرة.. وتلك قوتها..
صورة إبراهيم أو تجربته ترمز أيضا، من منظور عبد الله العروي، إلى ما يمكن أن نسميه وفق تعبير شهير لكارل ياسبرز نوعا من “المنعطف المحوري” (Un tournant axial) على مستوى الوعي الديني. منعطف رئيسي ارتبطت به تحولات أخرى ذات طبيعة سياسية اجتماعية وثقافية (ميلاد الإمبراطوريات الكبرى والدخول في حضارة المكتوب..). إنه التحول الذي نختصره عادة في عبارة الانتقال من التعدد نحو التوحيد.
تجربة إبراهيم بهذا المعنى تدشن مسارا طويلا ستتخذ خلاله التجربة عدة صيغ، وستتجدد حيث سيحل الواحد في صورة شعب مميز أو مختار يحمل رسالة إلى باقي الأمم (اليهودية) ثم سيصبح أبا راعيا حنونا لا يتردد في الكشف عن ذاته والتجسد في شخص فرد وتقديم نفسه فداء للبشر. وسيؤدي هذا المسار الطويل، حيث يتواصل الدعاء نفسه، وتتعدد الأجوبة، لصيغة جديدة يجسدها الإسلام، حيث العودة إلى التجربة الإبراهيمية في “براءتها” الأولى وحيث “الواحد لا يتجسد إلا في كلمة تُسمع وتقرأ وتتلى” (ص. 70). تلك هي التجربة التي سيجددها النبي محمد داعيا إليها قومه من العرب، والأقوام الأخرى.
وبهذا المعنى يكتب عبد الله العروي “لا دين إلا وهو إبراهيمي المنحى” (ص. 63). إبراهيم يرمز للتجربة-النموذج الخالصة في صورتها الأصلية، قبل كل تخصيص، إنها الأركيتب النظري (archétype)، ومن ثم كما يقول العروي، فهي “خارج النسق، قبل البدء” “قابلة للتجدد والتكرار” (ص. 70). وبما أن تجربة محمد، نبي الإسلام، هي تجديد للتجربة-الأصل، فإن القرآن أيضا “ليس كتابا كالكتب. وإنما هو قراءة الكتاب الأم عبر صيغه المختلفة وتشكيلاته المتوالية” (ص. 73) ما يسمى “الكتب السماوية” هي بهذا المعنى نسخ معتمدة تستعيد التجربة الأصل، تترجم الكتاب-الأم.
بعد أن يستدعي عبد الله العروي الوجه الإبراهيمي لتأويل التجربة المحمدية والدعوة الدينية المتولدة عنها، يستدعيه ثانية لتأويل التجربة التاريخية للعرب (عرب الشمال الغربي) والتي قادتهم أولا لرفض الصيغ السابقة التي قدمت لهم طيلة قرون عن التجربة الإبراهيمية (اليهودية والنصرانية)، ولاستقبال العرض المحمدي في القرن السابع. هناك، في نظر العروي، مانع نفسي قوي عند هؤلاء العرب جعلهم يرفضون لمدة طويلة الاندماج في الأمم والتجارب الدينية التي عرضت عليهم لمدة طويلة من الزمن.
وهذا المانع يتمثل في اعتقادهم الراسخ بكونهم يحملون فكرة عن ذاتهم، تميزهم عن الآخرين. وفي هذه الميزة يكمن أحد أقوى شروط ظهور وانتشار الإسلام بينهم. وهنا يدعونا، من خلال السيدة التي يخاطبها، لأن نقوم بتجربة ذهنية بسيطة تمكننا من فهم هذا الاستعداد النفسي/الثقافي الذي ظل مخزونا أو محفوظا في ذاكرة الشعب العربي، ولعدة قرون، وكأن هناك حتمية كامنة في شخصية هذا الشعب، تقوده ليعيش صيغة مخالفة للتجربة الإبراهيمية الأصلية.
التمرين الذي يدعونا عبد الله العروي لنقوم به، يتمثل في تصور مجموعة معطيات نقلت إلينا (في جزء منها وهذا مهم) عبر النص القرآني وعبر التوراة أيضا، وفي الجزء الأكبر عبر البناء الثقافي-الفكري الذي ستضطلع به الأجيال اللاحقة ابتداء من العهد الأموي.
الاعتقاد الراسخ لدى هؤلاء (العرب) بأن جدهم هو إبراهيم الخليل، وأنهم من سلالة إسماعيل، ابنه البكر الذي أنجبته سريته هاجر القبطية.
الاعتقاد أيضا بأن إبراهيم وإسماعيل ختنا في الوقت نفسه، والختان علامة العهد المبرم مع الرب الواحد الأحد.
الاعتقاد بأن جدهم إسماعيل وُعد مرارا، استجابة لتوسل أبيه إبراهيم أن شعبا عظيما سيخرج من صلبه.
الاعتقاد “المهدوي” إن شئنا بأن خاتم النبيين من ذرية إبراهيم لا يزال مدرجا في سجل المستقبل، عندما عرضت عليهم المسيحية بكل مكوناتها العقدية من تجسيد وتثليث، الخ.
هذه الشروط مجموعة صاغت، في نظر العروي، سيكولوجية العرب التي يكمن فيها سر استعدادهم ليسمعوا “من جديد نداء إبراهيم الخليل” (ص. 100)، خصوصا وأنهم يستوطنون أرضا زارها عدة مرات (وفق المحكي المتواتر). وهل كان بإمكان النبي أن يعرض على قوم عرفوا بكونهم “أصحاب ذكر وحفظ” وتمسكهم بالنسب، جينيالوجيا مادية وروحية، غير تلك التي توارثوها جيلا بعد جيل منذ أقدم العصور ؟ هل كان للدعوة المحمدية أن تنجح وتترسخ في مهدها العربي لولا أن ذكرى إبراهيم كانت حية ومؤثرة كما تدل على ذلك العادات القائمة المنسوبة لإبراهيم (الختان، الاحتفال بواقعة الذبح، تقديس البيت، التبرك بماء البئر..).
الحذر المنهجي
لا بد من الإشارة هنا، في هذه المرحلة من تقديم مسلسل البناء الفكري الذي يقدمه عبد الله العروي، من أن الكاتب يكرر في أماكن عدة من الكتاب ضرورة ووجوب التحلي بالحذر المنهجي وإعمال السؤال النقدي، لأنه قد تظهر وثائق أركيولوجية تدفعنا لإعادة النظر في معارفنا الحالية.. كما يقول مخاطبا مراسلته، إن أي حكم نصدره بهذا الخصوص، يجب أن نرفقه (ولو ضمنيا) بعبارة “إن بقيت معلوماتنا على حالها”. فما يبدو لنا اليوم بديهيا قد لا يظل كذلك وما يظهر اليوم “عجيبا، مذهلا، باهرا قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى أمر تافه مبتذل” (ص. 89-90) باعتبار أن أفقنا الفكري قابل للتغير باستمرار.
انطلاقا من هذا الحذر المنهجي الذي نتقاسمه مع عبد الله العروي، ومن هذه الوضعية النقدية (posture critique) المستعدة دوما للمراجعة على ضوء المعطيات (وثائق، أرشيف أركيولوجي أو غيره) وتفكيك البديهيات ومساءلة السنن، سنحاول أن نسائل بدورنا الصورة السيكولوجية (le portrait psychologique) التي رسمها عبد الله العروي لشعب عربي عاش لقرون في ظل ذكرى الجد إسماعيل يتطلع في نوع من “الانتظار المهدوي” لفرصته ليتحقق الوعد ويدخل بدوره تاريخ الخلاص.
السؤال : هل “عاش شعب النبي طوال ألف سنة، كما يكتب العروي، يتذكر إبراهيم وتجربته ؟” وهل نملك، إذا نحن استثنينا ما يفصح عنه الخطاب القرآني بهذا الصدد، حججا مادية تؤكد هذا الانتظار، وهذه الذكرى وهذا الاستعداد لتجدد تجربة إبراهيم ؟
أسئلة الأرشيف
سأكتفي هنا بإحالات سريعة لبعض نتائج بحث علمي نشر في أوائل الثمانينات1 خصص لدراسة آثار حضور ذكرى إسماعيل وأبيه إبراهيم عند العرب انطلاقا من تحليل ممنهج لكتب الطبقات والأنساب ووضع جرد بالأسماء (الأشخاص) في كل مرحلة (قبل الإسلام، عند ظهور الإسلام، العصر الأموي والعباسي) والقيام بتحريات عن نسبة حضور أسماء من قبيل إسماعيل، إبراهيم، هجر، سارة، إسحاق وغيرها من الأسماء التوراتية.
ما هي خلاصات هذا البحث ؟
• فترة ما قبل الإسلام: إذا استثنينا الجماعات اليهودية والمسيحية وبعض الجماعات الهامشية التي اعتمدت بشكل كلي أو جزئي تقاليد الديانتين المشار إليهما، فإننا لا نجد أية ذكرى (souvenir) عن إبراهيم أو إسماعيل تسمح لنا بالقول أن العرب حافظوا على فكرة الارتباط السلالي المادي/أو الروحي بإبراهيم من خلال ذرية إبنه إسماعيل.
• فترة الدعوة: القرآن هو أول نص أو أرشيف مادي تظهر فيه تسميات من قبيل إبراهيم وإسماعيل، وغيرها من التسميات التوراتية. في القرآن نجد البراعم الأولى للملحمة أو القصة، منها مثلا (التقاء وتصالح الأب والابن بمكة واضطلاعهما بناء الكعبة، بعد الطرد الذي تعرض له الابن (إسماعيل وأمه هجر) من البيت العائلي). ومع ذلك فإننا لا نجد في القرآن أية إشارة مباشرة أو غير مباشرة إلى طرد هجر وابنها من بيت إبراهيم، ولا إلى كون إسماعيل هو أبو العرب، كما لا نجد عبارة بنو إسماعيل على غرار عبارة بنو إسرائيل التي تتكرر مرارا في القرآن، وعلى الرغم من كون عبارة بنو إسماعيل قد تكون متداولة في أوساط اليهود والنصارى بالمدينة لوصف العرب. كما أن القرآن لا يحدد أيضا اسم الذبيح الذي أمر (من خلال رؤيا) إبراهيم بتقديمه قربانا للإله، هذا على الرغم من النص التوراتي يحدد بوضوح اسم إسحاق ومع العلم أن التراث التفسيري الإسلامي ظل يتأرجح بين من يقول بأن الذبيح هو إسحاق (الطبري) ومن يرى بأنه إسماعيل. النبي، حسب السيرة، سمى ابنه من مرية القبطية، إبراهيم.
• فترة صدر الإسلام: إذا سلمنا بأن العرب لم يستخدموا لأمر ما تسمية إبراهيم أو إسماعيل في الفترة السابقة عن الإسلام، فما هو الأثر الذي خلفته عملية إيقاظ الذاكرة التي جاء بها الدين الجديد ؟ هل سارع المسلمون إلى تبني اسم إسماعيل وإبراهيم الذي أطلقه النبي على ابنه الوحيد؟ هنا أيضا نفاجئ بما يحمله الأرشيف في مجال الأنساب (onomastique)، إذ يظهر من خلال فحص المصادر العربية أن المسلمين الجدد لم يتحمسوا مطلقا لاعتماد هذه التسميات، بل نلمس نوعا من المقاومة لاستخدامها.مثال : كتابة الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني.أحصى به Dagorn 1268 كنية لذكور (أبو كذا) لمعرفة الأسماء التي أطلقها المسلمون الأولون (الصحابة) من مهاجرين وأنصار على أبنائهم الذكور. ماذا نجد؟ أبو إبراهيم (تتكرر 3 مرات)
الأول : مولى لأم سلمة (صحابي)
الثاني: مشكوك في صحة وجوده كشخص بحكم أن خبره نقل إلينا بواسطة شخص آخر لقيه بمكة سنة 104 هـ. وهو ناقل حديث ضعيف.
الثالث : يشكك الذهبي في كونه صحابيا
أبو إسحاق (لا تتكرر إلا مرة واحدة)
أبو إسماعيل (ولا مرة واحدة)
ومن بين 1548 كنية نسائية يذكرها ابن حجر لا يرد ذكر سارة (أبو سارة) سوى مرة واحدة بخصوص مولى عمر بن هاشم بن المطلب.
القرن الأموي والقرن الموالي: يلاحظ من خلال التفريغ الإحصائي للمصادر أن أحفاد النبي من فاطمة/وعلي الذين لم يظهر في أوساطهم حماس واضح اتجاه التسميات الجديدة، بدأوا في العهد الأموي يقبلون على استخدام تلك التسميات، كما صاروا يهتمون بقصة إسماعيل وإعادة بناء صورة جديدة للتطور الديني للعرب قبل الإسلام، خصوصا في مكة، والدور الذي قامت به أسرة النبي مع استخدام كبير لسلطة وجوه محددة مثل العباس (عم النبي) وجده من أبيه، عبد المطلب.
ابتداء من علي بن الحسين بن محمد، يلاحظ تصاعد إيقاع استخدام التسميات التوراتية (مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) حتى جعفر الصادق، ثم يتضاءل ذلك الإيقاع قليلا إلى غاية الحفيد الثامن علي بن موسى الرضا. (يلاحظ هذا التطور عند مؤلف شيعي مثل الطوسي) حيث تكثر التسميات المذكورة في العراق، خصوصا في الكوفة التي يكثر بها الشيعة.
ومن تم يخلص الباحث إلى أن القصة صيغت عناصرها الأساسية وخطوطها الكبرى التي توارثناها في التراث العربي الإسلامي، في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن. ففي هذه الفترة وليس قبلها بدأ العرب يعون أهمية الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه الانتساب إلى وجه توراتي مثل إسماعيل. أما قبل ذلك فكان يظهر لهم غريبا تماما عن التقليد العربي. وقد ارتبطت العودة للموضوع بالصراعات السياسية التي نشبت بين مختلف المجموعات والفرق في تلك الفترة.
خلاصات:
من هذا المنظور، وبالنظر إلى ما هو متوفر لدينا اليوم من معطيات ومعارف، يمكن أن نضيف لما أكده عبد الله العروي، أنه ليست السيرة النبوية وعملية تصنيف الأحاديث، التي تعد وحدها متأخرة جدا عن فترة الدعوة، بل إن القصة المؤسسة والمؤطرة للتجربة، هي أيضا متأخرة عن الدعوة، حتى وإن كانت براعمها الأولى مبثوتة في النص القرآني.
التساؤل:
هل ظل العرب لقرون طويلة يتذكرون جدهم إبراهيم، كما يؤكد ذلك عبد الله العروي، أم نسوه وتجاهلوا ذكره لقرون، كما يذهب لذلك روني داجرون، مدعما موقفه بما يُفصح عنه أرشيف الأنساب والطبقات ؟ قد يكون الإثنان على حق فيما ذهبا إليه، لكن لتبيان ذلك، لا بد من الذهاب، كما كتب فتحي بن سلامة2، من الحقيقة المادية إلى الحقيقة التاريخية بالمعنى الفرويدي. إذا كانت أسماء إسماعيل وأمه هجر وأبيه إبراهيم قد غابت من الوعي الجماعي (الذي يمثله خطاب الأنساب وفعل التسمية) فإنها بقيت حاضرة في اللاوعي الجماعي للعرب (شمال غرب الجزيرة) باعتبارها تسميات تحيل للجرح الذي ترفضه وتستبعده الذاكرة الواعية بكل ما أوتيت من قوة. [كانت الجماعات اليهودية والنصرانية تصف هؤلاء العرب بكونهم أبناء الأمة (esclave) التي طردت مع طفلها (جدهم) من بيت إبراهيم ليتيهوا في الصحراء].
اسم إبراهيم يرمز أيضا لهذا الحاضر/الغائب، لهذا المنسي الذي لم يفتأ يحضر كعقدة نقص، كسبة، كجرح في الذاكرة. ثم بزغت شرارة الدعوة المحمدية وحولت كما يقول الجاحظ إسماعيل اللاعربي إلى عربي. وتحول مصدر النقص والعار إلى خزان قوة ومشروعية.
لقد ولد الإسلام، كما كتب فتحي بنسلامة، في حضن الطرف الذي طلقه الأب، حسب العهد القديم، لكن هذا الطرف المطلق المغمور ظل محفوظا (archivé) لتستمد منه ذاكرة الإسلام معينها، وتتحقق به مشروعية جينيالوجيه داخل شجرة التوحيد. لقد تحققت إعادة بناء العلاقة بين الإبن والأب، لكن ثمنها كان إعادة تطليق المطلقة. فالغريبة التي كانت في أصل الصيغة الجديدة للتوحيد، أعيدت مرة ثانية إلى وضع الغريبة. وقد تكون هذه واحدة من الإشارات الضمنية التي يمكن أن تلتقطها السيدة الأمريكية التي وجه إليها عبد الله العروي كلامه في هذا الكتاب الممتع.
الهوامش:
1- René Dagorn, La geste d’Ismaël d’après l’onomastique et la tradition arabe, préface de Maxime Rodinson, Genève : Librairie Droz, 1981.
2- Fethi Benslama, « La répudiation originaire » in Idiomes, nationalités, déconstruction, Les Editions Toubkal/L’Aube, 1998, p. 113-154.