عبد الله العروي، السنة والإصلاح، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 2008
ساد الاعتقاد في تاريخ غير بعيد، وفي عدد من المجتمعات العربية بما فيها المجتمع المغربي، أن الدين تحول إلى دائرة الخاص، وأن السياسة والاقتصاد، بل وحتى جوانب واسعة من شؤون الناس وانشغالاتهم، ابتعدت عن الاحتكام المباشر إلى ضوابط العقيدة. لكن عقد السبعينيات وما تلاه، شهد تحولا جذريا، مع ظهور وضع وخطاب يسعيان إلى تكييف مختلف جوانب الحياة مع النصوص الدينية1.
وترتب عن هذا التحول تزايد الاهتمام النظري بتدخل المقدس من قبل متخصصين في علوم الإسلاميات والسياسة والاجتماع والتاريخ، وبالتالي اختلاف المقاربات باختلاف زوايا الرؤى والمعالجة. وتفاوتت من هذا المنطلق النعوت التي ألصقت بظاهرة تحكيم الدين، من قبيل الصحوة والنهضة واليقظة أو الأصولية والتشدد والتطرف، وتنوعت الأبعاد المبررة لها، مثل البحث عن الذات والحفاظ على الهوية والعودة إلى سنة السلف، بل وحتى استرجاع الكرامة. غير أن عددا من الدراسات اختارت تشخيص الأحوال العربية بتوظيف مفهومي الحداثة والتقليد والبحث فيهما، اقتناعا منها بأن الأزمات المعيشة مزمنة، ولا يمكن معالجتها بالمراهنة على التحديث فحسب، أو تحسن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فقط، وإنما بالحفر في عقلية الإنسان العربي، وتشخيص أدوائها ومكامن العجز والتخلف فيها.
انساقت بعض هذه الدراسات إلى توريد المفهومين وخصوصا الحداثة، من المنظومة الأصل، أي المنظومة الغربية، فاتهمت بالإسقاط والاستغراب. واجتهدت أخرى في البحث عن مؤشرات للحداثة في النصوص الدينية، باعتماد قاعدتي المماثلة والقياس دليلا، فاتهمت بأسلمة الحداثة وتجريدها من سياقاتها التاريخية.
وفي خضم هذا النقاش وتزامنا مع استمرار الأزمة، أصدر عبد الله العروي آخر كتبه السنة والإصلاح.
I جنس الكتابة
إن المتتبع لأصداء كتاب عبد الله العروي السنة والإصلاح في الأوساط الثقافية والإعلامية، سيلاحظ أنه استقبل ككتاب غير عادي2. ويتبين بالفعل، من أولى قراءاته، أنه كتاب جرأة وتمرد، بل واعتراف و بوح بالمكنون، كما يدل على ذلك عنواناه المستبعدان: عقيدة لزمن الشؤم وسنة وإصلاح3. ويتبين أيضا من مضامينه أنه كتاب إشكالي، وحمال لقضايا ساخنة، وموضوع في قالب سجالي، ومحرر بأسلوب غير معتاد.
استحضرت وأنا أتابع حديثا لكلود ليفي ستروس (Claude Lévi-Strauss) عن علاقته بالكتابة، بث بمناسبة الاحتفال بمئويته، تقاطعات بين عبد الله العروي لحظة كتابته السنة والإصلاح، ورائد الانثروبولوجية البنيوية لحظة تأليفه كتابه الشهيرمدارات حزينة Tristes Tropiques4، وهي تقاطعات أحسبها تبدد شيئا من الحيرة التي استقبل بها الكتاب.
التقاطع الأول، يكمن في أن كلود ليفي ستروس حبر كتابه المذكور لحظة شعور بخيبة أمل في الطائفة العلمية5 التي لم يجد فيها آنذاك صدى كتابه المؤسِّس البنيات الأولية للقرابة Structures élémentaires de la parenté6. والشحنة التي كتب بها نص السنة والإصلاح وعنوانه الحاضر- الغائب يشيان، خصوصا عند المقارنة بخاتمة مفهوم العقل7، بنوع من الخيبة شعر ويشعر بها العروي لانتفاء الصدى المطلوب في دعوة تنويرية- إصلاحية دامت قرابة أربعة عقود8.
التقاطع الثاني والمترتب على الأول، له علاقة بطريقة الكتابة. فكما فعل ليفي ستروس في مدارات حزينة، تحرر عبد الله العروي من الضوابط الأكاديمية في الكتابة من دون التخلي عن القواعد العلمية والأدوات المنهجية المألوفة فيه. اختار مثل رائد الانثروبولوجية البنيوية خلق حوار حجاجي بين الذات المختزلة للتجربة، وبين موضوع الكتاب وقضاياه. وهي حالة ذاتية، غير بعيدة عن جنس كتابة تاريخ الذات (Ego – histoire)، تكشف عن وعي بالتاريخ، وتنفي القدرة على التنصل منه، وتفتح الباب على مصراعيه لمن يرغب في التوبة إلى الذات . هو ما أفصح عنه بكون ما كتبه يعبر عن هم ذاتي، ولا يفهم إلا إذا نسخ في تجربة ذاتية، وبأن ما صدر عنه “ثمرة تجربة شخصية تولدت عن وضع تاريخي خاص”9. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم اختياره مخاطبا افتراضيا له مواصفات مضبوطة10 على أنه مساءلة للذات بمفهومها الواسع، ولكن “بدافع من الواقعية”، أي من موقع المثقف العضوي البعيد عن التجريد، المعانق للتاريخ، المهموم بواقعه المجتمعي (ص. 6 ، 7، 11).
التقاطع الثالث، يتمثل في ميزتي عمق التشخيص والتحليل، واللذين لا يتأتيان-كما صور ذلك ليفي ستروس مسترجعا مخاض كتابة مدارات حزينة– إلا بقراءات متعددة أفقية، متمفصلة بقراءات مماثلة عمودية. قراءات شبيهة بنوتة الموسيقى، كلما تعقدت وتداخلت وتراكبت أعطت نغما غير عادي، ونصا مختلفا عن المألوف.
II منهج للتشخيص
بالرغم من كثافة النص، وتنوع مقارباته، وتنصل صاحبه من عباءة الفيلسوف والمتكلم والمؤرخ التقليدي، يتبين أن المؤلف عالج قضاياه وهو أقرب ما يكون إلى مؤرخ الفكر الذي يحدد المفاهيم ويفكك البنيات. وقد أكد على أنه ظل، وسيظل مخلصا للتاريخانية مهما تعرضت له هذه المدرسة من انتقاد. واعتبر بالمقابل أن المؤرخ المحترف، وليس الفيلسوف ولا المتكلم، هو المؤهل للشعور تلقائيا بصحة ما يكتبه، أي للإجابة عن الأسئلة التي تشغله بخصوص أسباب انتقال الإنسانية من صيغ إلى أخرى، في إطار حقبة تاريخية معينة، وآثار ذلك في العقول والأذهان (ص. 6، 29، 31).
اختار المؤلف المقاربة في الزمن الطويل، زمن العقليات، وليس الزمن السياسي، وبالتالي لم يشر إلا لماما إلى الشارد والاستثناء اللذين لا يفسدان للنظرية بناء حتى في العلوم التجريبية. والزمن المقصود يختلف عن الأزمنة النسبية والأزلية والتكرارية. لأنه الزمن المترتب على تجربة البشر، له بداية ونهاية، وقادر على كشف سائر الأزمنة للإنسان (ص.39، 166). ويقاس هذا الزمن بـالذاكرة، أي بـالقدرة التي تتأتى للإنسان المفكر والاجتماعي والتاريخي، عندما يقف أمام مفترق أو حاجز أو مانع، ويستدير ليكتشف ويعي المسافة التي قطعها، ويتولد لديه حينها نسق يحدد السابق واللاحق والبداية والنهاية ، أي مقياس يرسم وجهة انسياب الزمن، ويخول للإنسان القدرة على عكس الماضي واسترداده واختزال التجربة واستحضارها. وبذلك يفقد البدء الموهوم المتداول عند المؤرخ قيمته، ويرتب زمنيا بعد الوعي بالتوقف والالتفات، كما توجه الذاكرة الزمن وتقيده وتنزع عنه صفة الإطلاق (ص.47-50).
واختار المؤلف أيضا مجالا جغرافيا متسعا حقلا للدراسة، يتمثل في حضارات بحيرة البحر الأبيض المتوسط وما امتد خلفها من الجهات الأربع، قبل وبعد التحاقها بـضوء التاريخ، أي بركب نشوء وتطور الفكر الإنساني وفضاء النبوات والرسالات السماوية (ص.27، 49-50 ). نسج الكاتب خيوطا غير مألوفة بين الفعل الإنساني والوحي الإلهي من جهة، والزمن التاريخي والمجال الجغرافي من جهة أخرى. ولم يتردد في طرح أسئلة افتراضية غير معتادة على هذا الفعل والزمن والمجال، من قبيل التساؤل عن “وضعنا نحن سكان هذه المنطقة من المعمور، لو كان المرجع لدينا هو الصيني أو الهندي أو المايا”؟ ومن قبيل التفكر في التاريخ المكتوب، الحافظ لما ورثته الذاكرة من المنثور والموزون، على أساس أن موضوعه الدائم هو “الموت والخراب”، وأن دورات أفوله وبزوغه تفضي إلى تواتر الحضارات وتعاقب الثقافات وتوارث الشعوب وانزياح الأمكنة (ص.15، 48).
لم يشتغل المؤلف على وقائع وأخبار، وإنما على مادة نظرية وتأصيلية، أفرزها تاريخ مبسط ومحجم ومختزل، اصطلح على تسميته بـ الإسلام التاريخي وإسلام الجماعة والإسلام السني (ص.158- 159). واختلفت مقاربته المنهجية باختلاف النماذج التي وظفها لغاية في هذا الاشتغال، من قبيل مساءلة التاريخ عند حفره في التجربة الإبراهيمية، وانتقاده إياه كلما تعلق الأمر بتشخيص حال السنة.
III السنة: تقليد وتراث
السنة في تعريف المؤلف هي الإسلام كما تجسد وتطور في التاريخ. ومضمون الكتاب تفكيك لبنيتها في قراءة للماضي وإشارات إلى الحاضر، أي تتبع المراحل التي حولتها إلى تقليد ووصاية. بدءً من تشخيص تصرفها في النصوص المؤسسة، والوقوف على استبعادها لعلوم التجريب والملاحظة، وتضييقها على الفكر والعقل، وانضباط فقهاء وفلاسفة ومتكلمين لتصورها ورؤيتها المهيمنين، وانتهاءً بتعداد تداعياتها، من تكفير وتبديع وتهميش وحصار واستبداد. والسنة في الأصل وليدة المصالح والصراعات التي شهدها العالم العربي الإسلامي. ولذلك تكمن قوتها في التلازم بين التواتر التاريخي من جهة، وبين النص والمجتمع من جهة مقابلة.
ومن هذا المنطلق يميز الكاتب بين إحسان مكة لما اقتصرت الدعوة على التوحيد، وإيمان المدينة لما تعايش الوحي وفعل البشر، وإسلام دمشق لما بدأت فئة محدودة منحدرة من مكة ومتمتعة بالنفوذ والحنكة السياسيين في فرض فهمها/تأويلها للنص الأزلي والنصوص المؤسسة ذات الصلة، واضعة بذلك أسس السنة، أي كيفية تطبيق النص الأزلي على الواقع البشري المتحول.
اعتبرت هذه الفئة القرآن وحده دالا على ما يريده الخالق من البشر ولهم. وحرصت حتى قبل تدوينه على ترتيبه وفق ضوابط وغايات11، وعلى قصر معرفته وتوضيحه على السنة كما شهدتها هي. واعتبرت نفسها ومن اتبعها وريثة شرعية لسلطان النبي والمؤهلة الوحيدة لتبليغ توضيحه/ تفسيره للنص القرآني. وأصبحت بالتالي تصدر الأحكام باسم الله. وهكذا يتبين منذ تاريخ مبكر، أن الإجماع المؤسس للسنة ليس في الواقع سوى إجماع رأي عدد محصور من الصحابة والتابعين، الذين احتكروا، مع ذلك، تحديد المعاني النظرية والمقاصدية والعملية للنص، واستبعدوا الرأي والقياس المستنبطين بالعقل.
وكان لهذه السنة، التي عادت تقليدا، تداعيات، على مستوى الفكر مع سيادة عمل أهل المدينة، وعلى المجتمع مع تزايد نفوذ المكيين (ص.129- 134). غير أن الأهم يكمن في أنها درجت على إسقاط منظورها للنصوص المؤسسة على العلم كلما تعرضت له، وقاسته بمقياسها، فهو في نظرها، ومنذ الأزل، ثابت وكامل ومحكوم بالضوابط الشرعية، وطلبه مقصور على عدد محدود من الأفراد (ص.146-147).
ووظفت السنة ثلاث آليات لتكريس وإعادة إنتاج نفسها مجتمعيا وتاريخيا:
الأولى، المدرسة باعتبارها مؤسسة تعليمية وحيدة، تخرج نخبة بعينها (ص.168-169) وتخدم المؤسسة السياسية والقضائية (ص.147-148).
الثانية، الرواية باعتبارها منهجا وحيدا للتلقين، معتمده الحفظ والإسناد والتكرار والولاء للشيخ، وبالتالي تعظيم وإحياء الأموات (ص.12).
الثالثة، الحصر باعتباره السمة الوحيدة لضبط المعرفة، وذلك بقسمة المعارف الملقنة إلى ضروريةٍ هي القرآن والحديث والفقه، ومساعدةٍ هي اللغة والنحو والمعاني والأنساب والأخبار. وكذلك بتصنيف خلافها ضمن المعارف الصحيحة المذمومة والكاذبة المحرمة والنافعة المكروهة والوهمية المنبوذة.
وترتب على هذا التمييز رواج عدد من العلوم التي تنم عن فطنة ونباهة في هامش المؤسسة الرسمية، ومنها الطب والكيمياء والتنجيم وصناعة الأعداد. كما ترتب عليه عدم تدريس علوم أخرى مثل الحساب والمنطق، إلا بعد إقامة الدليل على منفعتها، ونفي ضررها للعقيدة، وإخضاعها لنفس طرق التلقين الشرعي. وهكذا تم إهمال وضياع حقول واسعة من المعرفة بتدريج دام سبعة قرون.
ولما كان منهج السنة اعتماد الإتباع ونبذ الابتداع، والتفضيل – بوعي أو بدونه- لثقافة السمع واللسان على ثقافة العين واليد التي قوامها الملاحظة والممارسة ، فقد ضاعت على المجتمع معارف عملية وصنائع من ميزاتها أنها تتطلب دربة اليد ودقة الملاحظة ومباشرة الطبيعة، وتتطلع دائما إلى المزيد وتقبل التراكم وتقتحم المجهول وتقدم على التجريب. والشاهد على ذلك أن السنة كتبت في المعارف العملية والصنائع صفحات معدودة، بالمقارنة مع الآلاف المسودة في العلوم الدينية.
وترتب تلقائيا على هذا الوضع تحويل كل معضلة عارضة سياسية أو مجتمعية إلى مسألة فقهية، في زمن استأنس فيه الفقيه المستفتى بـلعبة تتمثل في رفض الفصل بين الاختيارات المتاحة للبشر، ورفع القضايا النوازل إلى حكم الله. ومع تعاقب الحوادث لم يزد كلام الله إلا تعقيدا وغموضا، ومع مرور الأيام نما الكلام في الله وتفرع، بينما خبا وذبل الكلام في شؤون البشر والسياسة والمجتمع، مع أنه الأصل والأساس. وعموما تم هضم حق الإنسان باسم حق الله (ص. 135، 138-139، 144-145، 147-148، 152-153).
وتولد من هذا الوضع إقرار السنة على المستوى الاجتماعي لثنائيات متنوعة وذات مراتب، من قبيل حاكم ومحكوم، وسيد ومولى، وشريف وعامي، وحر ومملوك، وذكر وأنثى، وبالغ وقاصر، وعاقل وسفيه، وعالم وأمي، ومؤمن وكافر، وتابع ومبتدع (ص. 166-167).
وتولد منه أيضا على المستوى الفكري الاستغناء عن توسع الفكر، وتراجع الرأي لصالح الحديث، والعقل لصالح النقل، والباطن ذي المضمون الفلسفي لصالح الظاهر. وانحصر مجال مبادرة الفرد بالتدريج، ونمت وتعددت دواعي الخضوع والانقياد لرأي جماعة معينة مؤهلة وحدها لإظهار الحق قولا وفعلا (ص.141-143).
كما تولد منه على المستوى السياسي إلباس الحاكم المستبد رداء القداسة، امتثالا لحكمة الله القاضية بالتمييز بين الناس في الأرزاق، قياسا على تمييزه بين مكونات الكون، وقياسا على ضرورة تفويض الناس أمورهم للواحد إلها كان أو حاكما أو سنة، وقياسا على ما قررته السنة من كون عدالة الله ليست عدل البشر فيجب بالمقابل أن لا نجعل من العدالة البشرية عدلا إلهيا. وسهت السنة بهذا الاستنتاج، فساعدت على إحياء الطغيان والاستبداد (ص. 166-167، 203).
هكذا صاغت السنة تراثها وفرضته، من منطلق أنها تمثل إسلام الجماعة والوسط المتسامح والفرقة الناجية والخيرة والمؤلفة قلوبها (ص. 22، 130، 132، 134). كما دافعت عنه وناهضت التجديد ووسمته بالبدعة وقصرته على إحياء ما نسي أو تعثر أو خفي من السنة، بذريعة النهوض بما هو أهم وأنفع، أي تشييد مملكة الإسلام (ص. 135، 170). وتجذرت السنة، أي ذهنية التقليد والإتباع، وغزت كل مظاهر الحياة الفكرية والسلوكية. وقام أنصارها بعملية زبر وتشذيب وترتيب لكل ما علا وظهر، أو فاق وفاض، أو تجاوز وتعدى، وعملوا على التخلص من كل ما لم يقف عند حد معلوم أي تأويل سادة المدينة لسيرة الرسول الدنيوية (ص. 149-150).
وهكذا لما فتح أبو حنيفة بابا واسعا للاجتهاد، وإن كان مقيدا بالواقعية والعدالة، أعاد مالك في الموطأ الأمور إلى نصابها وحصرها في الاستحسان، وكرس الشافعي هذا المنحى حينما رأى أن مقصد القرآن لا يفهم إلا على ضوء السنة التي حكم إليها القياس، بحيث لا يتجاوزها بحال، ثم أسس ابن حنبل في المسند كل حكم على القرآن المفهوم على ضوء السنة، التي وسع دائرتها بإسناد كل الأحكام الفقهية على سوابق (ص. 140-141). ولم يشذ ابن حزم عن هذا المصير ولا الخوارج والشيعة والمرجئة ورواد الحكمة والمعتزلة، الذين فهموا أن تراكم التأويلات هو ما يمنح للحقيقة النصية معناها، غير أنهم استندوا إلى المجرد من النصوص الإغريقية عوض تغليب عقلية الملاحظة والتجربة والعمل، ولم يلتفتوا إلى جانب الممارسة من تدين الناس، ولم يؤسسوا فقها خاصا بهم (ص.150، 181، 187).
ولم يكتف أهل السنة بعملية الزبر هذه، بل التفتوا إلى الماضي وفعلوا به ما فعلوا بحاضر أيامهم، حيث عملوا على محو ما تحقق في الواقع لحظة ميلاد الإسلام، وأوجبوا إسقاطه بالكامل من ذاكرة الجماعة، على أساس قاعدة صارمة مفادها أن كل مخالف معدوم. ثم تطلعوا بعد الماضي إلى المستقبل، واتخذوا الترتيبات الكفيلة (ص. 149) بعدم استعادة الإسلام الأصل. وبذلك قرروا من أعلى المنابر، التي احتكروها في المساجد والمدارس وحرموها على خصومهم، ما يجب القيام به حتى يضمنوا البقاء والاستمرار جيلا بعد جيل لنفوذ أمثالهم ويطمئنوا على غلبة تأويلهم الخاص لكلام الله (ص. 150). ولم تطل نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي حتى لم يعد يوجد فكر ليس له تقليد خاص يخضع له خضوعا تاما (ص. 154).
هكذا مكر أهل السنة بمكر التاريخ، إذ طالبوه باسم فترة زمنية وجيزة ومختزلة ومصححة ومنقحة أن يتوقف عند حده، وأمروه بأن لا يتجدد أبدا ولا يتميز ولا يتنوع ولا يتطور إلا في اتجاه الحصر والتضييق والمنع والسد والقناعة، أي ألزموه بأن يتنكر لمضمونه ومغزاه، وأجبروه على استهلاك ما تبقى له من قوة في ممانعة التغيير بهدف المحافظة على الوضع المتعثر (ص. 150، 155).
IV الأبواب الموصدة
تصدى المؤلف، بفعل الاستتباع المنهجي، لروايات السنة الرسمية وأجوبتها الجاهزة، وفتح ملفات أفتت بإغلاقها باعتبارها من البديهيات والمسلمات القطعية (ص. 128، 161). غير أن ثلاثة ملفات/ قضايا هي التي هيمنت في الكتاب، ووظفت بامتياز للإقناع بآراء المؤلف ثم للدفاع عن مشروعه.
الأول في معنى الجاهلية
انتقد المؤلف تأويل السنة الخاطئ لمفهوم الإعجاز، وإصرار فقهائها على التسليم بأن معجزة الإسلام تكمن في انبلاجه في صحراء وسط “شعب” عاش على هامش التاريخ وبمعزل عنه، في فضاء عدم الجاهلية. ولاحظ أن أهل السنة القدامى حاولوا نفي اتصال النبي بالحضارة الهلينية وأحبار اليهود ورهبان النصارى، أو التقليل من تأثيره، كما يتهيب أنصارها حاليا ويخشون مما قد تسفر عنه الحفريات الأثرية (ص.89- 95). وكأن أي اتصال لهذا الشعب، أي عرب الشمال الغربي، بمحيطهم الحضاري، من شأنه إحالة دين الإسلام إلى مرجعية غير مرجعية السماء/الخالق.
رفض المؤلف اختزال ستين قرنا من الجاهلية في لا شيء (ص. 50)، سيما وأن العالم الذي أحاط بالعرب زمن نزول القرآن، أي حوض المتوسط الشرقي والمحيط الأوسع الدائر به، كان مسرح تاريخ حافل في هذه الحقبة. وحاول تعويض ضحالة الأخبار المتوفرة عن الدور الذي لعبه العرب في المجال اليوناني الكلاسيكي، بإفادات حضورهم التاريخي إلى جانب الفرس والمصريين والعبرانيين والرومان زمن انتقال مركز ثقلهم إلى الشرق. مثلت بلاد الشام، التي عربت بشريا وثقافيا قبل الإسلام بثلاثة قرون، مجال الاتصال والتواصل بين العرب والعالم المتوسطي. ويتبين من تاريخ العلاقة مع هذا المجال أن جغرافية الجزيرة العربية ونزوع سكانها إلى الاستقلال والترحال، هو ما يفسر ظهور العرب في هذا التاريخ كأشباح يلعبون أدوارا باهتة. غير أن نفس التاريخ يفيد أن العرب لعبوا أدوار الوسيط بامتياز، سواء تعلق الأمر بالمشاركة في الحروب أو تأمين الطرق أو جلب المواد النادرة أو نقل أخبار البلاد النائية. وتفسر العلاقة الأكيدة بين الثقافتين المادية والفكرية-الروحية مثلا، مستوى لغة العرب المتينة كالمنسوخة عن مكتوب حتى قبل أن تكتب.
ثمن المؤلف إذن الإشارات والإفادات التي تؤكد أن الشعب الذي بعث فيه النبي”شعب تاريخي عريق”، ولم يكن مطلقا متطفلا ودخيلا على تاريخ الشعوب القديمة. وبين أن احتكاكه بآثار الماضي واختزاله رسومها في الذهن عبر اللغة والقصص والأمثال والأعراف شكل خزان ما قبل القرآن، وأن رفقته للإمبراطورية الرومانية في عهديها الوثني والمسيحي ولدت علاقات ثقافية فكرية وروحية بينه وبين حضارات العالم القديم.
ينتهي ما سبق بالمؤلف إلى إعادة النظر في مقولة الجاهلية من خلال التحقق من مسلمة أمية النبي، ذلك أن هذا الأخير عاش ثلثي حياته بين أهله المعتادين على نقل البضائع وتبادل الأفكار (ص. 89- 97) ، وكان إلى حد ما واحدا منهم قبل أن يتبرأ منهم ويعتزلهم. كما أنه، بلا شك، بحث واستقصى بعد أن انكشفت له الرؤيا، وجد في تعقب تفاصيل الروايات الشائعة والمتواترة والمحفوظة بين قومه وأهل الكتاب، بحيث اتسعت معلوماته بمقدار ما اتضحت له الرسالة (ص. 109).
هكذا يكشف التوجه التاريخي العام وضرورة الاستتباع أن الإسلام ليس سوى “قراءة شعب قبل أن تدون في نص مضبوط” (ص. 94) ، ومن ثم فإن الصحراء/الجاهلية لا تعني قط الفراغ، وإنما تفيد عكس ذلك التاريخ الذي يصنعه الإنسان بمبادرته، بقدر ما يفيد الإسلام مباركة الخالق بهدايته هذا المنجز الإنساني. وإلا ما الذي منع غالبية عرب الشمال الغربي من اعتناق اليهودية أو النصرانية ولمدة طويلة؟ لابد أن المانع كان قويا إذ غالب الزمن وعارض المصلحة. وبالتالي لو كان العرب بالفعل دخلاء لسايروا الجموع، لكنهم كانوا أعضاء مشاركين مند البدء أي منذ النداء الإبراهيمي الأول.
حمل عرب الشمال الغربي الملحقون بالمجتمع الهليني منذ أزمان فكرة خاصة بهم، وميزة تفصلهم عن غيرهم وتمنعهم من الانصهار فيهم. وهذه الميزة، التي جعلت منهم أمة رافضة لكل اندماج وظلت لصيقة بهم طول قرون، هي شرط ظهور الإسلام وسر انتشاره السريع (ص.97، 98). وبالتالي، ما كان الناس يؤملونه وينتظرونه بشغف منذ قرون، والذي تحقق بعد أن كادوا ييأسوا من حدوثه، يجب أن يضاف إلى ما سبقه دون إخضاع الكل لنور الوحي. ومن هذه النقطة الخطيرة بكل المقاييس، تنطلق كل نظرية جدية عن الوحي (ص. 202).
هكذا يرفض المؤلف ما يفترض عادة ومن دون احتراس، من كون عالم العرب زمن نزول القرآن ظل معزولا أو قليل الاتصال بعالم البحر المتوسط، مع العلم أنه يكفي كشف أثري أو وثائقي واحد يفيد العكس12، لتنقلب كل التأويلات والافتراضات رأسا على عقب (ص. 89- 94).
الثاني في معنى ختم النبوة
“الإسلام آخر الديانات السماوية، ونبيه خاتم الرسل والأنبياء”: صفة وتميز يؤكدان بوضوح أن الإسلام نهاية سيرورة تاريخية ومجمع المعاني والمبادئ المترتبة على خطابات السماء المتتالية للبشرية. غير أن السنة أفرغت الختام من معانيه، ودفعت إلى التسليم بأن الأصل، أي الأول، والمنتهى في الرسالات والنبوات، بل وفي الباعث على خلق الكون وترتيبه، هو نبي الإسلام ومبعثه13. وبذلك حولت خلاصة تجربة إلى غاية في حد ذاتها ولذاتها.
ينتصر الكتاب، عكس هذا الفهم، للاستمرارية، ومعتمده في ذلك أن التجربة الإبراهيمية، وليست المحمدية، هي المؤسسة التي ألقت بظلالها على كل الديانات (ص. 52). ذلك أن إبراهيم هو الأصل والمنبع، لأنه يجسد القوة الحافظة باعتباره حقا أب الأنبياء والأمم (ص.51، 55، 110)، وتجربته هي الخاتمة (ص. 65). وهو بالتالي المبادر والسباق إلى إيقاف الزمن (ص. 52) واختزاله مع المكان في سرد معكوس لمسيرة التاريخ (ص. 55، 65).
تختزل الذاكرة الإبراهيمية مجموع الصفات المنسوبة إلى الأنبياء والرسل من بعده، ومن ضمنها تجسيد القطيعة الكبرى مع الكون وبين البشر وفي الحضارة، وتحقيق الفصل بين المعلوم والمجهول، وبين اليأس والأمل، ووضع طقوس العبادة، ونسج نسق النبوة أي التشكك ثم الحوار، فالدعوة والإجابة، فالاطمئنان (ص. 50-52، 57) ، وبالتالي لا دين إلا وهو إبراهيمي المنحى (ص. 63). وبما أن العرب عاشوا طيلة ألف سنة يتذكرون التجربة الإبراهيمية (ص. 94)، إلى أن استرجعوها واستعادوها، فان تجربة الإسلام صادقة ما دامت إحياءً وتجديدا لنداء إبراهيم، أي إذا وضعت في خاتمة المسيرة الإبراهيمية (ص. 70، 72، 110).
يستبعد المؤلف أن يكون النبي عرض على قومه -وهم أصحاب ذكر وحفظ- نسبا ماديا وروحيا غير الذي توارثوه جيلا عن جيل منذ أقدم العصور. إذ لو جاء بغير المعهود وقرر نبذ المألوف لما تبنى العادات القائمة المنسوبة إلى إبراهيم، مثل الختان والاحتفال بواقعة الذبح وتقديس البيت والتبرك بماء البئر. ولو أقدم على تجاهلها لكذبت دعواه.
ويفيد تاريخ العرب قبل الإسلام وبكيفية أفضل، أن بعض ما حدث في ظل الإسلام وظهر لا يمكن أن يولد بين يوم وليلة، ومن ذلك الحذق السياسي عند الزعماء والخبرة العسكرية عند القادة ونباهة المتكلمين وتوأمة مكة وبيت المقدس والهجرة وانتقال مركز القرار مبكرا من المدينة إلى دمشق (ص. 115-124).
والقرآن نفسه يعد قراءة للكتاب-الأم، أي للأصل الإبراهيمي عبر صيغه وتشكيلاته المتوالية (ص. 73). ويكشف منحاه العام على أنه ترجيعة متجددة لنغمة واحدة ، تتمثل في إخفاق الإنسان حيال إبراهيم وأنبياء الأجيال المتعاقبة (ص. 104-105). وكما تحمل النصرانية القائمة يهودية شكلية (حين تدعي الكنيسة الأولى أنها إسرائيل جديدة)، يحمل الإسلام التاريخي يهودية صورية (أهل البيت القبيل المقدس) ونصرانية شكلية (التصوف) (ص. 71-72).
يتحول الإسلام، إذا ما وضع في سياق هذا التوحيد الإبراهيمي، من علامة بدء إلى علامة تحول (ص. 175)، شأنه في ذلك شان اليهودية، التي تقمص فيها موسى دور النبي والقائد والمشرع، ومع ذلك لولا إبراهيم لما كان لهذه الديانة أدنى مسوغ (ص. 109). ولم يقيد هذا الوضع الإسلام كما لم يقيد التجارب التالية للإبراهيمية، لأن زمن هذه الأخيرة انحصر في الذهن فقط، وظلت للديانات المتتالية حرية الاختيار. ومن ثمة لم يتغير الدعاء، وإنما اختلف جواب العقل والحواس في كل تجربة (ص. 66).
من المؤكد أن التجربة الإبراهيمية حمالة لتأويلات شتى، وأنها تعرضت للحجر. غيران إزالة الزوائد عنها وتمييزها عن سيرورة التاريخ اليهودي، يمكنان من النظر إلى دلالتها الرمزية والشكلية، وقراءتها على أساس أنها الأصل والعام، وليس الفرع والخاص، والانتباه فضلا على ذلك، وبالأساس، إلى أنها تمثل ذاكرة ذات آليات مشتغلة وتأثيرات مستمرة وعلاقة بالإحساس والخيال والتمييز والعقل مسترسلة ومتواترة (ص. 51-52، 57). هكذا تبين للمؤلف، وخلافا لما ادعته السنة، أن الإسلام بحكم كونه آخر قائمة الديانات، يتحمل التطور كله، ويفخر بذلك، ويعتز بأنه وارث وليس متم وخاتم الرسالات وحسب (ص. 71).
الثالث في العلاقة بالهلينية
لم يكن الفضاء الذي ولد فيه الإسلام ونشأ في غربة أو بمعزل عن الثقافة الهلينية. ذلك أن الغرب المنتصر عسكريا على الشرق حمل إليه قبل الدعوة بزمن طويل فكرا فلسفيا مؤثرا، وإن خضع لذهنية الشرق وروحانيته، حيث سهل في الشرق الانتقال من التعدد إلى الوحدة، ومن التناثر إلى الانتظام، ومن التنوع والاختلاف إلى التماثل والائتلاف، ومن فوضى الغوغاء أو تناحر الأشراف إلى الانقياد لإرادة الفرد المتسلط (ص. 49، 89-94).
والشاهد على ذلك أن المسيحية التاريخية لا تنتمي فقط إلى العالم القديم، عالم إبراهيم المحدود ببلاد الرافدين ومصر، بل تنتمي أيضا إلى العالم الجديد المشبع بالثقافة الهلينية، حيث اختارت مثلا اللغة اليونانية وسيطا في التلاقح وعند التأثير، ولم تستطع فصل عيسى عن سيشرون وأفلاطون، وبررت ذلك بأنه يندرج ضمن خطة ربانية مفادها أن توحيد المجال المتوسطي سياسيا على يد أباطرة روما، وثقافيا بزعامة مفكري اليونان، كان تمهيدا لمجيء عيسى المسيح. ويترتب على ذلك أن عيسى ينتمي بلحمه ودمه إلى عالم اليهود، لكنه ينتمي بتمثله، أي شعوره وذهنه ومنطقه وأسلوبه، إلى ثقافة العصر الذي أنشاه الإسكندر المقدوني، وكرسه يوليوس قيصر. ومن ثمة يختلف عيسى النبي عن يسوع الإله عند النصارى، وتكون المسيحية قد نشأت في أحضان الإمبراطورية الرومانية، وليس كما يبدو في أطرافها، واعتنقت ما هو من صلبها، وليس فقط ما طرأ عليها من الجوار(ص. 81- 83).
ولما كان المحيط التاريخي للعرب، زمن نزول القرآن، هو العهد الهليني حيث تتداخل الثقافات، وحيث كثيرا ما يتقن المرء المثقف لغة جاره (ص. 89- 94)، ولما كان الإسلام التاريخي قد حمل في أحشائه نصرانية شكلية تتبين في تصوفه، تبين اليهودية الصورية في تفضيل الشيعة قبيل أهل البيت المقدس، فقد دعا المؤلف إلى قراءات مفتوحة لا مغلقة ولا محصورة للنصوص المؤسسة، قراءات متعددة لا تغفل ولا تتهم ولا تكفر التأثير الهليني.
وخلاصة المؤلف أن تعريف الإسلام بالعودة إلى الدين الأصيل القيم لا أساس لها، وتحمل ذهنية خلط وانتقاء، وتعبر عن رغبة في محو التاريخ أو اختزاله حتى تصبح التجربة المقترحة لعبة تافهة لانعدام أصل حقيقي. وبما أن هناك تاريخا طويلا سابقا على الوحي، بل وبما أن هناك إنسانية بكاملها لم يصلها الوحي، فإن العودة -الأصل تكمن في الرجوع إلى تاريخ أشمل أي الوضع الجاهلي والإبراهيمي والهليني (ص. 25، 134).
V مشروع للتغيير
يفهم من محاججة المؤلف للتقليد/السنة في معظم الكتاب، ومن خلال إلحاحه على البعدين الإبراهيمي والهليني في الإسلام التاريخي، وتأكيده على التواصل بين موطن النبي وحضارات العالم المتوسطي، أنه يدفعنا دفعا إلى الاقتناع بأننا جزء من العالم، وبأن تجربتنا قطعة من تجاربه المسترسلة، وبأن هناك تاريخا وحضارة وثقافة مشتركة تجمعنا بالآخر أي الغرب! والحال، لماذا لا نفك طوق التقليد عن أعناقنا، كما فعل من ننتمي وإياه إلى نفس الفضاء التاريخي، فضاء وحدة النوع البشري ووحدة الكون ووحدانية الخالق؟!
يقدم الكاتب مداخل للتغيير، التقطناها ونوجزها كالآتي:
أولا، رفع الالتباس الذي قد ينزلق إليه القارئ المستعجل، إذ أن غاية الكتاب، التي ترقى إلى مراتب الوجوب، هي إنقاذ المجتمع والعلم والسياسة، ليس من الدين الذي يتطلب مفهومه المزيد من التدقيق باستمرار، وإنما من التأويل الذي فرضته السنة، والسنة مؤسسة بشرية (ص. 210). وفي هذه الغاية اقتداء بالنبي العربي نفسه حينما رفض ما سنه اليهود والنصارى من تقليد (ص. 201).
ثانيا، الإشارة في أكثر من مناسبة إلى دور الدافع الخارجي في إحداث التغيير، والاستشهاد بما وقع في روسيا وتركيا والصين، إذ “كثيرا ما تحرر الهزائم العزائم” (ص.150)، خصوصا بعد فشل الاستعمار في تحقيق القطيعة. وفي الإشارة تلميح إلى استبعاد الأمل في توفر الشروط الذاتية لإصلاح حقيقي في الوقت الحاضر، وإلى أن أي هزيمة مع مرارتها قد تفضي إلى التطهير، ومن ثمة إلى التغيير.
ثالثا، التبشير بأن السنة تحمل في أحشائها الجرثومة التي تقوض أركانها وتؤول بها إلى الانهيار، متى اقتضت ذلك الظروف الخارجية، وأن من المستحيل تمثل وضع تصل فيه إلى غايتها، لأن ذلك مشروط بتوقف الزمن وانعدام الطموح عند البشر(ص. 171).
رابعا، الرهان على إصلاح/ تغيير ينطلق من خارج جغرافية السنة/التقليد، باعتبار أن ما انعقد بفعل التاريخ داخل زمن ومكان محددين قد ينحل بفعل التاريخ دائما في بقعة أخرى (ص. 93).
خامسا، الحكم بالفشل على كل إصلاح/ تجديد من داخل السنة، والدعوة إلى تكسير إطاراتها المتحجرة والمقيدة، خصوصا وأنها في حالة تكون مستمر وتعمل آليا وباستمرار وعناد على طمس تأثير الأحداث التي تعترضها، كما يستخلص من وقائع فترات المدينة والفتنة الكبرى والثورة العباسية وتفكك الخلافة والهجمة الصليبية والغزو العثماني والاستعمار الأوربي وغيرها (ص. 191-196، 204-205).
تتلخص وصفة الكتاب، للشفاء من التأويل الذي فرضت سلطته السنة، في مكونات مشروع نجمعها كالآتي:
أولا، اعتماد منهج نقدي للنصوص المؤسسة (ص. 129)، باعتبار أن لاشيء مما يروى عن هذه الحقبة يعلو على النقد (ص. 128)، في تلميح إلى السؤال المرعب هل يمتد النقد إلى النص القرآني أم يقتصر على الشروح والتفاسير، ومن منظور أن الدراسة العلمية للمقدس لا تعني بالضرورة الانتقاص أو النيل منه، وإنما قد تفضي إلى فهم أفضل لتجلياته، خصوصا لما نحرره من التأويل الموروث، أي من النصوص التي تحجبه عنا. واستشهد المؤلف في هذا السياق بشجاعة القدامى في التعامل مع النص القرآني زمن الاجتهاد، حيث حكموا التوراة والإنجيل للتشكيك والاتهام، كما نقلوا تساؤلات الآخرين حول مصحف عثمان، دون تردد أو تهيب أو مؤاخذة من أحد. وحذر المؤلف المعترضين المفترضين من مغبة السقوط في مصير قراءة اليهود والنصارى الحاليين لكتبهم المقدسة، إذ لم يعودوا مثل أجدادهم يفهمون منها معاني متجددة (ص. 86-87). وطمأنهم بأن القرآن، مهما كانت القراءة وخلافا للتوراة والإنجيل، “يخرج أقوى تأثيرا وأكبر قيمة” (ص. 78).
ثانيا، تحكيم النصوص إلى مقاس الزمن مما يفرض قراءة وفهما مختلفين. وضرب المؤلف مثلا من القرآن الذي لم ينزل دفعة واحدة، بل تكون على مدى عقدين من الزمن، وكان متفرقا ولم يجمع إلا بعد ذلك بعقدين آخرين. كما أن السيرة النبوية لم تحرر إلا بعد قرن من جمع القرآن. في حين لم يصنف الحديث في مجاميعه إلا بعد قرن إضافي. وتترتب عن هذه الملاحظة أسئلة حول النصوص التي كانت تتلى، والأحاديث التي كانت تروى، والأحكام التي كانت تجرى، قبل هذه الأزمنة، وفي بقعة جغرافية لم تتوقف عن الامتداد (ص. 127-128).
ثالثا، الدعوة إلى قراءة القرآن (ص. 8، 11) باعتباره كتابا متميزا (ص. 73)، والتي تستوجب التعرف على النبي المنزل عليه، وعلى العرب المخاطبين به، وعلى العالم الذي أحاط بهم وشاركوا بقدر ما في أحداثه (ص.89). ويفرض فهم القرآن أيضا قراءة خاصة للكتاب-الأم أي الأصل الإبراهيمي عبر صيغه المختلفة وتشكيلاته المتوالية (ص. 73) ، وللثقافة الهلينية، وللرواية الشفوية التي حفظ بفضلها في البداية، وللصيغة المكتوبة المحررة والمقعدة التي انتهى إليها (ص. 95).
رابعا، إلغاء الوساطة والحجر في قراءة النصوص وفهمها، مع ضرورة العودة إلى الأصول، والتركيز على الأسئلة وترتيبها وليس على الأجوبة، واستيفاء شروط القراءة لا التلاوة، والإيمان بقدرة الإنسان عموما على استنطاق الكلام وإدراك معناه (ص. 34- 35، 103، 208-209). ويعيد المؤلف بهذه “التوصية” الاعتبار إلى مسلمة تكاد تغيب عن الأذهان، والمتمثلة في غياب صفة ومرتبة رجال الدين في الإسلام، باعتبار أن العالِم أو العلامة مرتبط بالعلم عامة وغير مختص بالضرورة في الشؤون والعلوم الدينية. وبما أن الخالق ينفرد بالقدسية وكتابه يستأثر لوحده بالمكانة الاستثنائية، فان كل سلطة بشرية وإن كانت دينية تظل زمنية وقائمة على الاجتهاد والتخمين والرأي وبعيدة عن الجزم والإلزام. ويستتبع هذه البديهية الإقرار بحرية المسلم ومسؤوليته الشخصية أمام ربه وفي مجتمعه لما يتصدى لفهم القرآن وتفسيره.
خامسا، الالتزام بـ العلمانية في معناها الصحيح، باعتبارها سلطة محايدة ترسم الحدود وتفرض احترامها (ص. 210-211). أي الدعوة إلى الفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص. الأول كوني مشترك، يحتل فيه الإنسان والعقل والعلم والحريات والقانون والحقوق وغيرها المركز. والثاني فردي، يتحرر فيه الوجدان وتجوز المناجاة، وتتهذب داخله النفس بالتقرب من الخالق والتحبب للنبي والإعجاب بالقرآن، كما ضرب المؤلف مثلا من نفسه (ص. 201، 210-212). هكذا ينتصر عبد الله العروي للحداثة التي يستحيل في رأيه الجمع بينها وبين التقليد سواء في الخطاب أو في الواقع (ص. 105).
تفترض هذه الوصفة في رأي الكاتب الاستعجال، تجنبا للاطمئنان للتقليد وما يترتب عنه من تبشير بالقناعة وتشجيع للأمية باعتبارهما عنوان البراءة والإيمان الفطري، ولأن”الزمن مخلاف” يغير المواقف والعلاقات، والمستقبل يبعث على الخوف، والحاضر يكذب يوميا معظم التوقعات. وبالتالي يجب استباق الزمن “باعتماد التحليل العقلي التاريخي فيما يتعلق بالنص الذي نقرأه اليوم”. وفي غياب وانتظار جديد الدراسات والأبحاث المفترضة، يفرض الظرف التاريخي واستمرار الحياة وجري الزمن، المغامرة بالافتراض، والمجازفة بالتأويل، بل وبالحلول الملغومة، والتوقف عند الإمارات الدالة، وإعمال الملاحظة من دون مسبق ولا تحفظ في المجال الواسع المهمل عن قصد (ص. 7، 88، 128- 129، 163، 196). ويوصي المؤلف لنفس الغاية بتصيد المحرك الأصلي والدافع الواقعي والمعضلة السياسية والاجتماعية لكل مسألة فكرية مجردة، وبتجنب التيه في الحلول التي يقترحها الفقهاء في شكل أقوال وردود واعتراضات وتفنيدات، خصوصا وأنهم عملوا على طمس هذه المسائل بإفراغها في قالب نظري يكثر فيه القيل والقال حتى لا يصادقوا على الحل الذي يفرضه الواقع (ص. 156).
VI أسئلة القراءة
تتمثل أهمية كتاب السنة والإصلاح بل خطورته في كونه خطابا حذرا14، لا يشخص الأحوال المتأزمة وحسب، ولا يجازف بناء عليها بحلول “ملائمة” فقط ، وإنما يمثل فضلا عن ذلك نظرة استشرافية للمستقبل15. ولهذا السبب يثير أسئلة شائكة، نسوق منها النماذج التالية التي تفرض نفسها تلقائيا على القارئ.
1- في التاريخانية الحداثية
جدد عبد الله العروي في السنة والإصلاح وفاءه للتاريخانية، وهي مقاربة فلسفية ومفهوم تاريخي وآلية/أداة للاشتغال، لم تسلم من الانتقاد سواء في الغرب الذي ابتدعها أو العالم العربي الإسلامي الذي التقطها. والملاحظ أنه عمم فهمه للتاريخانية ومقاصده منها، في كتب سابقة خاطب بها أجيال خمسة عقود، وذلك في منحى يغير التعريف التقليدي للتاريخ ويعيد النظر في مهنة المؤرخ ووظيفته.
يرى العروي أن غاية التاريخ مواصلة تشييده، إذ لا سبيل إلى فصل المؤرخ الباحث عن الإنسان المشارك في عملية البناء التاريخي16. وبما أن العالم العربي الإسلامي يعاني من حالة ركود بين، فان التاريخ في هذه الجغرافية كان وسيظل تاريخا للتأخر ولتعويض التأخر17. ووظيفة المؤرخ العضوي الأساسية هي مساءلة الماضي باستمرار وعن وعي في الظاهرتين المتحكمتين في حياتنا السياسية والفكرية: حالة التخلف التاريخي المزمن، والاشتغال على إنتاج شروط الثورة على هذا الوضع وتجاوزه18.
ولا يتسنى للمؤرخ الايجابي القيام بهذين المطلبين، والوفاء للواجب المترتب عليهما إلا بتبني المقاربة التاريخانية، المتمثلة في النظر إلى القوانين المتحكمة والمفسرة للتطور التاريخي، وتتبع سيرورة هذا التطور من الماضي إلى الحاضر، والإيمان بالانتماء إلى التاريخ والمصير الكونيين، والاعتقاد بالتالي في إمكانية ومشروعية اقتباس واستعارة مشاريع الآخر للخلاص19.
ويشترط في المؤرخ التاريخاني أن يعي بعزم وتصميم تاريخيته، أي أن ينظر إلى التاريخ على أساس أنه بناء إنساني مستمر من دون انقطاع، وأن الهدف منه الإنسان الواعي والحر والعاقل والخلاق، وأن لا يقتصر بالتالي على البحث وإنما يشارك في عملية البناء التاريخي في المنحى الكفيل بتجاوز التخلف الموروث والشخوص بالبصر إلى المستقبل20.
هكذا تصبح التاريخانية، باعتبارها حالة وعي بالتخلف وضرورة تجاوزه، فلسفة كل مؤرخ يعتقد أن التاريخ بمفرده العامل المؤثر في أحوال البشر، ووحده سبب وغاية الحوادث21. ومن هذا المنطلق تفهم دعوة العروي إلى النهوض العربي في كتب صادفت أحداثا جليلة22، كما يفهم منهجه الذي لم يحد عنه بحيث عايش من قبل الموجة الماركسية ويعايش الآن النزعات الحداثية.
كذلك يتبين أن تاريخانية العروي لم تحد عن تصور كارل بوبر (Karl Popper) لها منذ أزيد من ستة عقود، أي من جهة نظرة غائية تخضع الظواهر للزمن التاريخي وتعتبر التاريخ عنصرا جوهريا في تفسير وفهم الظاهرة الإنسانية، ومن جهة أخرى نظرية تبلورها وتؤمن بها العلوم الإنسانية والاجتماعية الهادفة إلى استشراف المستقبل والتنبؤ به انطلاقا من تشخيص الماضي ورصد إيقاعاته ونماذجه وضوابطه/ قوانينه واتجاهاته العامة المحددة للتطورات التاريخية23.
وإذا كان المؤلف قد تبنى المقاربة التاريخانية في تشخيص الأدواء، فانه اقترح الحلول الحداثية في علاجها. والحداثة كما هو متعارف عليها خلاصة تجربة تاريخية غربية، تحولت إلى منظومة قيم كونية، يتغير بموجبها الاهتمام من المركزيات التقليدية، أي الخالق والدين وموضوعية الطبيعة، إلى أخرى جديدة، هي الإنسان الخلاق والعلم الوضعي والعقل العملي، مع ما يتولد منها من قيم مثل الليبرالية والمواطنة والديمقراطية ورابطة القانون ومنظومة الحقوق والواجبات.
تواجه الاختيارين التاريخاني والحداثي في مقاربة الحالة العربية الإسلامية مجموعة من الاعتراضات الذاتية والموضوعية24. أولها، اعتراض البعض على إخضاع النبوة للتحليل المعتاد في غيرها من الإنتاج الفكري الإنساني، سيما وأن البحث عن تاريخية النص القرآني والحدث الإلهي يفضي بالضرورة إلى فرض الزمن والفضاء المدنسين على المقدس، وإلى حصر الدين في مظهره المجتمعي من دون اعتبار لأبعاده الروحية والنفسية. هذا في حين يلاحظ البعض الآخر أننا، وإن وفقنا في التشريح وأصبنا التشخيص، ما زلنا نفتقر إلى ترسانة المعارف والأدوات المنهجية الملائمة لقراءة النصوص المؤسسة والمقدسة قراءة علمية مغايرة.
ثانيها، ملاحظة أن عددا من حالات التخلف والتأخر والركود التي استشهد بها المؤلف هي في الواقع خطابات حمالة لعدة أوجه وقابلة لأشكال من التأويل، ولا تعبر بالتالي عن وجود عقل إسلامي يشتغل في اتجاه وحيد وذي قواعد وآليات ثابتة. وتنظر بعض الدراسات خلاف ما قد يفهم من الكتاب أن هذه الحالات/ الخطابات مرآة لتفعيل الاجتهاد وإعمال العقل، كما قد يقرأ إنتاج أئمة المذاهب الفقهية والمعتزلة وابن رشد وابن حزم والغزالي وابن خلدون وغيرهم. هذا مع العلم أن الاستثناء لا يفسد للنظرية بناء، وأن الأمور بخواتمها، والخاتمة بداهة وضع وواقع لا يبعثان على الاطمئنان.
ثالثها، أن القارئ لا يتمالك، وهو يتأمل وصفة شفاء الكاتب، المشفوعة بالدعوة إلى الانخراط في الكونية الإنسانية، رغبة ملحة في استحضار تجربة الآخر- الشريك المطلوب الاقتداء به، أي قراءة إصلاحنا المأمول بإضاءة ولو جانبية من الإصلاح الذي أنجزه الغرب، باعتبار أن الإصلاح ظاهرة مشتركة بين المجتمعات الكتابية على الأقل، وأن مفهومه وتجاربه قابلان للتعميم، وأن البحث فيه من موقع التاريخ المقارن مطلب في غاية الأهمية.
وفي هذا السياق، يتبين من أعمال ماكس فيبر (Max Weber)25، وإرنست ترولتش (Ernst Troeltsch)26، ولوسيان فيفر (Lucien Febvre)27، وبيير شوني (Pierre Chaunu)28، وغيرهم، أن التغيير في الغرب انبجس ونشأ في الوسط الديني وليس خارجه، وأن رجال الدين هم أول من نهض بالإصلاح، وأن قراءة الإصلاحيين للتوراة والإنجيل، من الكنيستين البروتستانتية والكاثوليكية، هي من كسرت قيود التقليد ودفعت إلى الفردانية وفتح الأبواب على مصراعيها لمساهمة عوامل وعناصر إضافية في تشييد العالم الحديث والحداثي.
وتتطلب شروط الاستعارة التي تفرض نوعا من التماثل أن يتساءل القارئ بدوره عن السبيل إلى إشراك علماء وفقهاء من العالم العربي الإسلامي في المشروع الحداثي، وعن إمكانية الرهان على الفكر الإسلامي القاطن في الغرب والمتأثر به كما سبق وبشر بذلك المفكر طارق عزيز، ولمح إليه العروي غير ما مرة، علما أن جانبا واسعا من هذا الفكر عاد أكثر تقليدا وانغلاقا.
وفي نفس السياق، يؤكد عبد الله العروي أن التاريخانية مثلت في مختلف محطات التاريخ البشري تحررا تدريجيا من الفكر التقليدي29، وأن لا سبيل إلى إنكار حقيقة تاريخية تهم، على الأقل، عالمنا المتوسطي وهي أننا انتقلنا بفضلها، وعلى خط مستقيم لا فجوة فيه، من الثيولوجيا إلى الفلسفة، ومن هذه الأخيرة إلى العلم الموضوعي، وتحول نظرنا من ذات الله إلى الإنسان ومنه إلى الكون، وخلال كل ذلك لم يتغير منهج الاستدلال ولا توجه الذهن، وإنما تغير الموضوع ، ولم تتطور آليات العقل وإنما تطور استعمالنا له30. ومنطلق هذا الاقتناع هو الذي عزز الدعوة إلى الاقتداء بالآخر والانخراط في مثل تجربته.
لكن شروط المقارنة تدفعنا هنا أيضا إلى التساؤل عن فرص نجاح الدعوة للتغيير نحو الحداثة في وسط لم يعش تجربة تاريخية خاصة فيما يتعلق بالفكر الليبرالي والطبقة البرجوازية، ولم يحقق لا الإصلاح الديني ولا الثورة الكوبرنيكية.
2- في التقليد و الإصلاح أولا، يلاحظ القارئ في خطاب السنة والإصلاح تغييبا مقصودا للاختلاف الحاصل في المجتمعات العربية الإسلامية وما بينها، مما قد يسمه بالتعميم والتضخيم31، انطلاقا من التساؤل هل فعلا يأسرنا التقليد جميعا32 وتتحكم في تفكيرنا وممارساتنا رؤية خاصة للدين، وبالحدة والشكل والحجم الذي أبانه الكاتب؟ نلاحظ ونعاين فعلا، في المجتمع المغربي مثلا، مظاهر للتقليد والتدين ودعوة إليهما، لكنها لا تنفي بأي حال وجود مظاهر مناقضة في مستويات مختلفة وبتلوينات متنوعة. ولذلك قد تكون قضايا الكتاب في حاجة ماسة إلى قياس دقيق أو على الأقل معبرا لدرجات التقليد خاصة ومستويات التدين عامة في المجتمع. وذلك لن يتأتى إلا بسبر قريب للبنيات المجتمعية والذهنية، اعتمادا على أبحاث ودراسات ميدانية، ووفق آليات اشتغال علمية اجتماعية وأنتروبولوجية.
ثانيا، يشير النص عرضا إلى نماذج مجتمعية غير عربية وفقت، وإن في حدود متباينة، في التخلص من مأزق التخلف. لكن هل تحقق فيها التغيير بالقطيعة مع تراثها أم بقراءته قراءة مغايرة؟ بفعل التدخل الخارجي أم بعنف الحركية الاجتماعية؟ تفيد الدراسات، على الأقل بالنسبة لنماذج دول شرق آسيا ومنها بعض الدول المسلمة، أنها راهنت على تنمية الاقتصاد والإسراع بالتحديث كقاطرة لتحقيق التغيير، وأنها اختارت عن قصد أن تكون الحداثة وقيمها نتيجة متوجة وليس أسبابا محركة، كما دافعت عن ذلك مرافعة الكتاب.
ثالثا، اختار عبد الله العروي سنة 1967 دراسة ثلاثة نماذج شخصية تعبر عن الوضع العربي المتأزم، وتجسد لحظات متفاوتة من الوعي لم تفارق المجتمع العربي الإسلامي :محمد عبده الذي برر ضعف العرب والمسلمين في عدم الإخلاص للدين، مميزا بين العقيدة السماوية التي تظل بريئة ونقية وسامية، وبين التجربة التاريخية الإنسانية الفعلية التي لا تزيد عن كونها إفسادا وتشويها لرسالة السماء وخيانة لها. ولطفي السيد الذي بحث في التراث العربي الإسلامي عن الليبرالية. وسلامة موسى الذي اعتقد أن الخلاص يكمن في التحديث والاقتداء بالغرب والانتفاع منه في العلوم والتقنيات33.
واختار أيضا سنة 2008 التركيز على الذهنية العتيقة التي لا زالت تطبع شريحة من العالم العربي الإسلامي، وذلك من خلال المقارنة بين ذهنيتي الرحالة الإسبان والمغاربة أمام صدمة الحداثة والتحديث في القرن التاسع عشر. حيث لم تكن تخطر في ذهن الإسباني حينما يزور باريس إلا فكرة واحدة وهي أن يبلغ بلده سريعا نفس مستوى التقدم الذي بلغته فرنسا، لكونه لم يكن يرى نفسه وذويه مختلفين وإنما متجاوزين ومتأخرين بالمقارنة. وخلافا للإسباني كان المغربي، حسب شهادة عدد من السفراء، يعتبر نفسه مختلفا عن الفرنسي، عندما يجد نفسه أمام الأشياء النفعية كان يقول لنفسه هذا لا يليق بنا34، في إشارة إلى يقينه بأنه يمثل الحق والصواب وأن كل ما تتميز به أوربا غير ملائم لتقليدنا أو يوجد أصلا عندنا في الإسلام، بل وأن أوربا اقتبسته منا. وبين الاختيارين قد تتضح الرؤى لو سقنا نماذج من وقتنا الراهن لا زالت تحول دون تجاوز العالم العربي الإسلامي عتبة الإصلاح المعاق.
3- في دور المثقف
يجسد كتاب السنة والإصلاح بامتياز حالة قلق المثقف التاريخاني حيال الركود الذي يعاني منه مجتمعه بسبب التقليد والتخلف المهيمنين في جوانب واسعة من الحياة. ويتبين من الشحنة التي يحملها واللغة التي صيغ بها، بل وأيضا من استرجاعه وترديده مقولات سابقة، أن صاحبه عاود بخطابه التحريضي دعوة المؤرخ والمثقف عموما إلى تخطي ضوابط الحرفة، وتجاوز حدود الطائفة والانخراط في دائرة التأثير. وينتبه القارئ في هذا السياق إلى جملة دالة وردت بين ثنايا الكتاب، وهي قول صاحبه: “نجازف نحن أصحاب الشأن بتأويل أو افتراض” (ص. 128).
تفرض هذه الدعوة، كما يفرض هذا التموقع، معاودة التساؤل عن وظيفة المثقف وحدود نفوذه وتأثيره، وعن قدرته على تحمل وطأة المسؤوليات الكبرى ذات الصلة بأسباب الأزمة، وتبين أدوات ووسائل الخلاص منها أو تحمل تبعاتها. كما يفرضان التحقق من صحة الاعتقاد بأن الإصلاح وقف على المثقفين ورهين بهم، وأن من الواجب عليهم التحول إلى نخبة عارفة وعالمة وملتزمة تعتبر الاجتهاد تكليفا والتزاما ومسؤولية.
تشي إجابات الكتاب الصريحة والمستبطنة بأن صاحبه يحرض المثقف على إحداث تغيير جذري في المجتمع العربي الإسلامي يشمل العقليات والممارسات قبل المؤسسات والتشريعات، وبالتالي يطالبه بالعمل والفعل في حدود حقله. غير أن الدعوة، مع ذلك، تفترض الانتقال، من مستوى إنتاج الخطاب الفردي وتداوله في فضاءات مغلقة، إلى وضع المساهمة في حركة اجتماعية مفتوحة، يمارس فيها المثقف قناعاته الفكرية وينخرط مع الآخرين في مشروع أشمل وأكبر. كما تفترض الدعوة التحلي بالوعي الإنتقادي الشامل سواء أمام الفكر العربي الإسلامي التقليدي أو الغربي الحداثي، وذلك حتى لا يبدل تقليد بتقليد.
تنتصب تلقائيا أمام أعين القارئ، وهو يطوي دفتي الكتاب، أسئلة مثبطة لكل مشروع إصلاح، لعل أهمها ما آلت إليه أحوال العالم العربي الإسلامي من تمزق، واستعمال للوسائط الاتصالية والمعلوماتية في إعادة إنتاج التخلف والاختلاف، وارتداد إلى الهوياتية الإقليمية واللغوية، وتوجس من الصورة الاختزالية والنمطية التي سجننا الغرب داخلها.
وإذا كانت ميزة التقليد الوحيدة، حسب عبد الله العروي، هي القدرة على التمثل والتذكر35، فإننا نسجل مع ماكسيم رودينسون (Maxime Rodinson)، أن مفكرا كبيرا، شبيها بحمامة نوح العائدة إلى السفينة، حمل منذ 1967 الغصن الأخير، بشارة بأن طوفانا بدأ يتقهقر، وأن أراضي جديدة بدأت تظهر”36. لكن، وبعد أزيد من أربعة عقود، لازلنا نبحث في شروط التحرر من وضع متخلف رتيب، وعن إمكانيات الخلاص من أزمات تكرر نفسها بشكل روتيني…
هوامش
1- Kepel (Gilles), La revanche de Dieu, Paris, Seuil, 1991.
2- ما كان للكتاب أن يثير اهتمام القارئ لولا أن صاحبه هو عبد الله العروي، وذلك لكثرة ما صنف في عنوانه.
3- Interview avec l’auteur réalisée par Fatima Ait Mous et Driss Ksikes, revue Economia, n°4, octobre 2008-janvier 2009.
4- Lévi-Strauss (Claude), Tristes tropiques, coll. Terre humaine, Paris, Plon, 1955.
5- فشل كلود ليفي ستروس، مرتين قبل سنة 1959، في الحصول على كرسي الأستاذية في كوليج دو فرانس (Collège de France)
6- Lévi-Strauss(Claude), Structures élémentaires de la parente, Paris, PUF, 1949.
7- العروي (عبد الله)، مفهوم العقل: مقالة في المفارقات، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 1996.
8- كتب مثلا، سنة 1973، أن سبب التخلف يعود إلى التشبث بالتراث. انظر:العرب والفكر التاريخي، بيروت، دار الحقيقة، 1973.
9- Interview…, op.cit.
10- امرأة، من ثقافة غربية، تلقت تعليما علمانيا، لغتها غير العربية، تشتغل بالعلم التجريبي… (ص. 6).
11- يستعمل المؤلف كلمة “يؤلف مجددا”.
12- يترقب المؤلف – كما عبر عن ذلك غير ما مرة في طيات الكتاب – أن تتوصل أبحاث مفترضة إلى نتائج في ميادين الآثار والتوثيق والتاريخ وغيرها، تغير القراءة التقليدية وتاريخها السائد. هذا مع العلم أن عددا من الدراسات وإن كان قليلا يؤكد ما يفترضه الكاتب، وإن لم يشر إليها.
13- يرتبط المغزى الكوني عند أهل السنة برسالة العرب إلى العالم، التي بدأت مع الرسول، وتعد خاتمة تاريخ طويل قبله. ولا تعطي السنة معنى لتاريخ ما قبل الإسلام، كما لا تعطي معنى للجاهلية إلا بمقدار ما تقود إلى الإسلام. وتفضي إلى هذا الاستنتاج أيضا قراءة المطولات التاريخية العربية مثل تلك التي وضعها الطبري وابن الأثير وابن خلدون، والتي تبتدئ بفصول طويلة حول التاريخ منذ بدأ الخليقة. والملاحظ أن هذا التصور انتقل إلى المأثور والفهم الشعبيين.
14- يمكن في هذا السياق تعميم تحفظ الكاتب من حق فرض منطق وإدراك بعينيهما على الآخرين وادعاء فهم أفضل لأحوالهم (ص. 9- 10).
15- من هنا يدرك حمل الخطاب هموم وهواجس “طفل عزيز يخشى على مستقبله”. ولما كان الطفل من خلال نسبه ومعيشه علامة على المصير الكوني المشترك، فان المستقبل المعني يتجاوز بكثير جغرافية العالم العربي الإسلامي (ص. 7).
16- العروي (عبد الله)،مفهوم التاريخ، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992، ص. 363.
17- العروي (عبد الله)، العرب…، م.س. ، ص. 133، 189، 192.
18- Laroui (Abdallah), L’histoire du Maghreb, Paris, F. Maspero, 1970, préface.
19- العروي (عبد الله)،العرب…، م.س. ،ص. 226-227.
20- العروي (عبد الله)، مفهوم التاريخ، م.س. ، ص. 34-35، 356، 363.
21- نفسه، ص. 349.
22- Laroui (Abdallah), L’idéologie arabe contemporaine: essai critique, Paris, La découverte, 1967 ; La crise des intellectuels arabes: traditionalisme ou historicisme, Paris, F. Maspero, 1974.
23- Popper (Karl Raimund), Misère de l’historicisme, Paris, Plon, 1955, la préface.
24- وقد ناقش المؤلف بعض هذه الاعتراضات. انظر: العروي، مفهوم التاريخ، م.س. ، ص.379-388.
25- L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme, trad. Fr., Paris, Gallimard, 2003.
26- Protestantisme et modernité, trad. Fr., Paris, Gallimard, 1991.
27- Un Destin : Martin Luther, Paris, P.U.F., 1928.
28- Le temps des Reformes, Paris, Fayard, 1975, t.I : le temps de la chrétienté, t.II: la reforme protestante.
29- مفهوم التاريخ، م.س. ، ص.348.
30- نفسه، ص.23.
31- الملاحظ في نفس السياق أن الخطاب يبعث تارة على الأمل وأخرى على الإحباط.
32- يقول عبد الله العروي إنه عاد من العسير وأحيانا من المستحيل الانفلات من عالم التقليد المسحور والمتصلب والمتحجر, الذي ينحل منه باستمرار المتغير إلى الثابت, والطريف إلى التالد. وبذلك يتحول إلى منهج عام يتحكم في العقل والشعور والسلوك، ووسيلة لمحو التاريخ، أي الفوارق والمميزات الناتجة عن تغيير الأحوال وتعاقب الأزمنة. انظر: نفسه، ص. 347-348.
33- Laroui, L’idéologie…,op. cit.
34- Interview…, op. Cit
35- مفهوم التاريخ، م.س. ، ص.348.
36- Laroui, L’idéologie… ,op. cit., la préface de Maxime Rodinson