يعتبر كل من كليفورد غيرتز، وديل أيكلمان، ولورنس روزن، وهلدر غيرتز، وبول رابينو أهم الباحثين الأنثروبولوجيين ذوي المرجعية النظرية التأويلية الذين درسوا المجتمع المغربي. وقد سعى هذا الاتجاه التأويلي، كما هو معلوم، إلى فهم طبيعة النظام الاجتماعي المغربي وضبط آليات تغيره انطلاقا من تصورات الأفراد وتمثلاتهم الثقافية حول الوجود وحول علاقاتهم الاجتماعية. وهذا التصور النظري هو الذي دفع كل من غيرتز وأيكلمان، وهما بمثابة الوجهين البارزين ضمن هذا الاتجاه التأويلي، إلى التركيز أكثر على دراسة المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها كمفتاح لفهم النظام الاجتماعي والنظام المجتمعي ككل بالمغرب.
وتبتغي ورقتنا هذه عرض وإبراز أهم الخلاصات والاستنتاجات التي خلص إليها هذا الاتجاه التأويلي حول الإسلام بالمجتمع المغربي، وذلك من خلال المقارنة بين أعمال كل من غيرتز وأيكلمان[i]. وعلى الرغم من أن أيكلمان يُعرض عن فكرة وجود “مدرسة تأويلية” ينتمي إليها إلى جانب غيرتز والآخرين[ii]، فإننا نعتقد أن القراءة المتفحصة لدراستي كل من غيرتز وأيكلمان، المذكورتين أعلاه، تبين أن ما يجمع بين هذين الأنثروبولوجيين أكثر بكثير مما يفرقهما[iii].
فعلى الرغم من أن كلا الباحثين له أسلوبه الخاص في الكتابة والتحليل، فإن هناك نوعا من التطابق بينهما على مستوى الخطوات المنهجية المتبعة، وعلى مستوى الاستنتاجات العامة التي توصلا إليها. وبتعبير آخر، فإن للرجلين في عمليهما السابقي
الذكر مواطن ائتلاف واختلاف سوف نسعى جاهدين لرصدها وتفسيرها في حدود ما تسمح به هذه المقارنة.
- I.الإطار النظري: النظرية الڤيبرية حول التفاعل القائم بين المنظومات الثقافية والمعتقدات الدينية
من المعلوم لدى ذوي الاختصاص أن كليفورد غيرتز، هو أحد كبار الأنثروبولوجيين المعاصرين الذين أسهموا في تطوير دراسة الأنساق الرمزية والثقافية داخل الممارسات الأنثروبولوجية سواء على مستوى النظرية أو على مستوى المنهج[iv]. وقد عمل غيرتز، منذ مقالته الشهيرة “الدين كنسق ثقافي”، على بلورة تعريف عام للدين ينسحب على جميع الأشكال الدينية الممكنة، فالدين حسبه «نسق من الرموز يعمل على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة، وانتشار واستمرار دائمين لدى الناس، وذلك عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، مع إضفاء طابع الواقعية على هذه التصورات بحيث تبدو هذه الطبائع والدوافع واقعية بشكل متفرد»[v]. ويقصد غيرتز من خلال هذا التعريف للدين أن هذا الأخير يربط الصورة الجوهرية للحقيقة بمجموعة من الأفكار المتماسكة حول الكيفية التي ينبغي على الإنسان العيش وفقها، موفقا بذلك بين الأنشطة البشرية وصورة النظام الكوني، وباعثا في الوقت نفسه صورا عن هذا النظام الكوني فوق مستوى الوجود البشري.
وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وُجهت إلى هذا النموذج التحليلي لغيرتز حول الدين، فإن محصلته كانت، في نظرنا، واضحة وإجرائية، لأنها دعمت التصور الڤيبري المتجاوز للمنظور التبسيطي، الذي يقيم تعارضا بين وهم الاستقلال المطلق للخطاب الديني، وبين النظرة الاختزالية التي تجعله انعكاسا مباشرا للبنيات الاجتماعية. هذا التصور الڤيبري هو الذي سيعتمد عليه بورديو ويزكيه فيما بعد[vi].
وقد نحى ديل أيكلمان هذا المنحى نفسه، حيث يقول بهذا الصدد: «إن الأفكار والمنظومات الفكرية، وخاصة منها تلك التي تبنى على أساسها مواقف الناس اتجاه الكون، لا يمكن أن يستقيم تفسيرها، من وجهة نظر تحليلية صرفة، كما لو كانت مجرد وحدات أفلاطونية تتموقع فوق مستوى التاريخ، بحيث لا تمسها حوادث الزمن وتطالها صروفه»[vii]. ويرى أيكلمان أن النموذج الڤيبري المتضمن في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية يعد بمثابة التحليل السوسيولوجي الأكثر ملاءمة لتحليل الأوضاع التاريخية المحددة، والأكثر قابلية لتوظيفه في بلورة المتغيرات السوسيولوجية في شكل مفاهيم إجرائية»[viii]. كما أن أيكلمان أحال أكثر من مرة على أفكار غيرتز، التي تعزز هذا الطرح الڤيبري وتعمل على أجرأته، واستعان بها على رسم معالم وحدود مرجعياته وخلفياته النظرية المؤطرة لدراستة حول «أبي الجعد».
بناءً على ما سبق، يبدو جليا أن كلا من غيرتز وأيكلمان اعتمدا، بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، على الطرح الڤيبري الذي يرى أنه لا تستقيم دراسة الهوية الدينية سوى بتناولها ضمن النسق الديني التي تشكل جزءً منه، بالإضافة إلى السياق الاجتماعي التي تندرج داخله. وعليه عمل كل من الأنثروبولوجيين على دراسة الإسلام بالمجتمع المغربي في سياق التغير الاجتماعي، بمعنى وضعه داخل سياقه التاريخي.
II. الربط بين التاريخ والبنية الاجتماعية
تعتبر مسألة الجمع بين أدوات الأنثروبولوجي والمؤرخ في دراسة الأنساق الدينية من أهم ما يميز الاتجاه التأويلي. وإذا كنا قد أبرزنا فيما سبق الجذور النظرية لهذا الربط، فإننا سوف نحاول فيما سيأتي من هذه الفقرة الوقوف على الاستعمال العملي التطبيقي لهذا المنحى المنهجي عند غيرتز وأيكلمان من خلال متنيهما السابقي الذكر.
يعتبر غيرتز التاريخ المغربي تاريخا دينيا بالأساس[ix]، حيث إن الشخصية الصانعة لهذا التاريخ كانت ولا تزال شخصية دينية بالدرجة الأولى، فالولي المحارب هو الذي يشيد المدن أو يهدم الأسوار. فإدريس الثاني، الذي يعد أول ملك حقيقي للبلاد، كان في الوقت ذاته حفيدا للرسول وقائدا حربيا كبيرا ومصلحا إسلاميا مجددا، وتعد الصفتان الأخيرتان بمثابة العامل المحدد، فلولا توفرهما لما أصبح هذا الرجل في الغالب ملكا للبلاد. كما أن مؤسسي الدولتين العظيمتين، المرابطية والموحدية، كانا في الأصل مصلحين دينيين. وأزمة الزوايا التي طبعت التاريخ المغربي، واستمرت زهاء القرنين، نتجت عن إفلاس الإيديولوجية السعدية وسقوط دولتها، كما أن القضاء على هذه الأزمة ووضع حد لها تم على يد الدولة العلوية الناشئة.
ويرى كل من غيرتز وأيكلمان أن الحضارة الإسلامية بالمغرب قد تشكلت بالأساس عن طريق القبائل المتحركة التي كانت تمثل مركز الثقل الثقافي. ويضفي أيكلمان على هذه الفكرة لمسة من التنسيب حيث يرى أن المدن قد دخلت، بالتدريج منذ مجيء الإسلام للمغرب، في علاقة اقتصادية متبادلة مع القبائل المحيطة بها، وكان لها دور في صنع الأنشطة السياسية[x]. ويميل غيرتز إلى الاعتقاد بأن تأثير الفقهاء قد تقوى بفعل الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب، بعدما كان محدودا خلال “المغرب القديم”، حيث إن التدخل الأوربي لم يستتبع ردود أفعال غاضبة ضد المسيحية الغازية فقط، وإنما ضد التقاليد “المرابوتية” القديمة أيضا. في حين ينزع أيكلمان إلى الاعتقاد بأن الإيديولوجية الإصلاحية لم تستطع أن تعوض مع ذلك إيديولوجية الزوايا والصلحاء. ويرى غيرتز أن الإسلام لعب دورا هاما في الحفاظ على الذات والشخصية الاجتماعية أثناء مرحلة الاستعمار، إذ أن الظهير البربري هو الذي لعب الدور الكبير في تشكيل الحركة السلفية والحركة الوطنية معا. كما أن المغرب استطاع الحفاظ على وحدته الروحية بفضل مؤسسة الملكية، إذ أعاد الملك محمد الخامس إلى الوجود فكرة الولي، حيث جمع أثناء فترة حكمه بين الولي الصالح والسياسي المقتدر.
وقد وقف أيكلمان بدوره عند أزمة الزوايا التي استمرت من القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، وفصًلَ في كافة العوامل التي كانت وراءها: كفقدان المغرب السيطرة على تجارة الذهب، واحتلال الإسبان والبرتغاليين للشواطئ المغربية، وتنازلات السلاطين المرينيين، ودور العثمانيين في الجزائر في دعم المعارضة ضد السياسات المرينية. كما رفض أيكلمان تفسير عزلة المغرب، التي دامت من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، بالعوامل الطبيعية، كالسلاسل الجبلية وغياب الموانئ الطبيعية، إذ أرجع هذه العزلة إلى سياسة السلاطين المتعاقبين على الحكم خلال هذه الفترة.
ويبدو للمقارن بين ما أورده كل من غيرتز وأيكلمان حول التاريخ المغربي، أن أيكلمان، على الرغم من كونه لم يختلف مع غيرتز في استنتاجاته الكبرى، إلا أنه أبدى معرفة عميقة ودقيقة بالأحداث التاريخية الكبرى، وكذا بالنقاش الدائر حول دلالاتها وتأثيرها على المسار التاريخي للمغرب. كما أن أيكلمان نهج إستراتيجية تقوم على أساس التفصيل في إيراد المعطيات التاريخية الدقيقة، أكثر مما يستدعيه البرهان النظري، للكشف عن قصور، ليس فقط الكتابات الكولونيالية التي ذكر بعض أصحابها بالاسم، كألفريد بيل، وإنما أيضا من لم يذكرهم بالاسم مثل إرنست غيلنر ودايفد هارت، بل حتى غيرتز نفسه في بعض التفاصيل الدقيقة من تاريخ المغرب. إذ يخيل للقارئ أحيانا أن أيكلمان يتفادى التعبير عن مواطن الاختلاف بشكل مباشر وواضح مع غيرتز، في حين أنه يعمل على إبراز مواطن الائتلاف فيما بينهما ويشدد عليها[xi].
وفي دراستهما للواقع الاجتماعي، اتخذ المنظور التاريخي عند أيكلمان بعدا أكثر إجرائية بالمقارنة مع غيرتز، بيد أن كليهما أثبتا بأن عملية فهم الحاضر تبقى مرتبطة بمعرفة الماضي، حيث لا تستقيم بدونه.
III. الإسلام بالمغرب من منظور غيرتز وأيكلمان
اعتمد كليفورد غيرتز في رصد وتحليل التغيرات الدينية بالمغرب بالأساس على المعطيات الميدانية والتاريخية التي جمعها حول الموضوع. واستنادا على التصور الڤيبري- الذي يجعل من الدين مؤسسة اجتماعية، والعبادة نشاطا اجتماعيا، والاعتقاد قوة اجتماعية، ويرى أن الحياة الدينية لمجتمع ما ينبغي أن تبدأ من تحليل أنساق الدلالة التي يستعملها الفرد داخل الحياة الاجتماعية – قام غيرتز بتحليل قصة الولي اليوسي، التي تجسد في نظره «صورة الروحانية الحقيقية» عند المغاربة بغض النظر عما كان عليه هذا الرجل في الواقع. وقد كشف غيرتز، من خلال تحليله لصورة اليوسي كما يتمثلها ويتداولها الخيال الشعبي المغربي، عن كنه معنى البركة التي ليست مجرد مفهوم ديني وإنما عقيدة بكاملها. وهي تعني أن المقدس يتجلى في العالم كهبة وقوة يختص بها أناس معينون دون غيرهم. وتعكس مسألة امتلاك البركة سواء من مصدرها النَسبي أو الإعجازي، أو هما معا، معظم دينامية التاريخ الثقافي المغربي. وترمز قصة اليوسي مع السلطان المولى إسماعيل إلى العلاقة القائمة بين البركة الانتسابية والبركة الإعجازية، وكيف تفرض الثانية على الأولى الاعتراف بها وإضفاء الشرعية عليها؟ فقد كان الأولياء، وهم مالكو البركة بامتياز، بمثابة المؤسسين الحقيقيين للوعي والنماذج المشكلة للمجتمع في المغرب القديم. بيد أن التحولات التي مست المجتمع المغربي انطلاقا من تجربة الاستعمار، وظهور مؤسسات جديدة، مع استعادة السيادة الوطنية، غيَّرت هذه الصورة، حيث عمل المغاربة جاهدين على الحد من نضج هذه التناقضات التي نشأت بحكم هذه التغيرات. فقد اجتهدت الحركة السلفية لتحُول دون اصطدام الدين بالعلم. ويخلص غيرتز إلى أن التقاليد الدينية المغربية المعدلة تبقى رهينة استمرارية نمط الحياة التي تصوره، مما يفسر حسب رأيه، في جزء كبير، العلمانية الواقعية التي تطبع الحياة اليومية للمغاربة. حيث إن الاعتبارات الدينية في المجتمع المغربي ،رغم كثافتها، لا تلعب دور الموجه للسلوك سوى في بعض المجالات المحدودة. بيد أن هذا التمييز بين أشكال الحياة الدينية وجوهر الحياة اليومية يسير حتما نحو نقطة الانفصام الروحي[xii].
ويرى غيرتز أن الحياة الدينية بالمجتمع المغربي لم تعرف تغيرا كبيرا منذ نهاية الستينيات تاريخ صدور كتابه Islam observed حتى بداية التسعينيات (تاريخ صدور الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب) بسبب استمرارية النظام السياسي، ذلك أن المغرب، وبعكس بلدان إسلامية كثيرة، لم يفرض على الدين التكيف مع التغيرات العنيفة على هيأة وشاكلة السلطات المركزية[xiii]. وتعتبر هذه الخاصية حسب غيرتز بمثابة صمام الأمان الحقيقي ضد كل الاحتجاجات الدينية، وهذا ما يفسر نجاح الدولة عبر السياسات الحكومية المتوالية للحد من خطورة الحركات الإسلاموية التي بقي تأثيرها حبيس الجامعات وبعض المناطق الهامشية[xiv].
ويقول غيرتز بهذا الصدد: «إن النظرة الروحية للمغاربة، كما يرونها هم، موحدة وغير مجزأة إلى نزعات متنافرة، وبالتالي تبقى المسألة المركزية هي تطبيق هذه الرؤية على الحياة اليومية، وبالإضافة إلى ذلك فإن التكيفات والتوفيقات وكذا التغيرات في المواقف التي حدثت من جراء التبدلات، التي حصلت في السنين الأخيرة، قد اتخدت طابع الممارسة والتطبيق أكثر من الطابع الإيديولوجي»[xv].
أما ديل أيكلمان فقد سلط الضوء، من خلال عمله المشار إليه آنفا، على جانبين اثنين داخل الحياة الدينية للمجتمع المغربي، إذ قدم تحليلا دقيقا لطبيعة المفاهيم المكونة لنظرة المغاربة إلى الكون من جهة، كما عمل على تفكيك وإعادة تركيب المعتقدات الدينية التي تقبع خلف ما أسماه بـِ «إيديولوجية الزوايا والصلحاء بالمغرب» من جهة أخرى.
تتكون نظرة المغاربة إلى الكون حسب أيكلمان من خمسة مفاهيم أساسية هي: «المكتوب»، «العقل»، «الحشومة»، «الحق» و«العار». ويرى أيكلمان أن هذه المفاهيم الرئيسية هي التي تشكل جوهر الحس المشترك. ويعد منظور الحس المشترك للطريقة السليمة والمقبولة معياريا، التي يجب أن تكون عليها الأمور، عاملا محددا ورئيسيا لتشكيل وتفسير التجربة الاجتماعية. فحسب الاعتقاد السائد لدى الناس فإن هذه المفاهيم المشكلة للنظرة إلى الكون هي نابعة بالضرورة من المبادئ الإسلامية، التي تضفي عليها طابع المشروعية. كما يرى أنه بالرغم من حضور بعض الرموز الدينية في منظور الحس المشترك، إلا أنه لا يمكن اعتبار المعتقدات الدينية مجرد تعبير رمزي عن التنظيم الاجتماعي. بيد أن منظور الحس المشترك ومنظور الدين يظلان متداخلين ومرتبطين ببعضهما البعض. ويستشهد أيكلمان بـِغيرتز قائلا: « فكما جاء عند كليفورد غيرتز بهذا الصدد: تشكل الرموز الدينية قاعدة مشتركة منسجمة بين أسلوب الحياة وميتافيزيقا خاصة (غالبا ما تكون مضمرة)، وداخل هذا الانسجام يشد أحد العنصرين أزر الآخر بما يستمده منه من سلطة»[xvi].
وقد بيَّن أيكلمان كيف أن المغاربة يعطون قيمة كبرى لخصوصية تنظيمهم الاجتماعي وحسهم المشترك اللذين يتميزان بنوع من الواقعية والمرونة الاجتماعيين. أما ما يسميه هذا الباحث بإيديولوجيا الزوايا، فإنها في نظره أنساق معتقدات تم تشكيلها داخل المجتمع المغربي، وارتبطت استمراريتها بصيرورة اجتماعية خاصة. وقد أعطت هذه المعتقدات صيغة للإسلام كانت ذات دلالة بالنسبة للقبائل وسكان المدن طيلة أربعة قرون، ولازالت هذه الصيغة ضرورية بالنسبة للبعض منهم. فعلى الرغم من أن نظام الحماية قد عمل على التقليل من خصوصيات الصيرورة الاجتماعية التي حافظت على إيديولوجية الزوايا – حيث ظهرت في المدن بدائل أخرى من أنماط المعتقدات الإسلامية، أعطت صيغة معيارية مثالية لما يجب أن تكون عليه علاقة الإنسان بالغيب- إلا أن هذه الإيديولوجية الإصلاحية لم تستطع أن تعوض في جميع الحالات الإيديولوجية المرابوتية. ويرى أيكلمان أنه إذا كانت المعرفة بمبادئ الإسلام الرسمي قد غذت أقوى بكثير مما كانت عليه في الماضي، فإن الإسلام الذي يدعو إليه الإصلاحيون يعد أقل توافقا مع التنظيم الاجتماعي والحس المشترك. فالإسلام كباقي التقاليد الدينية الكبرى يخضع لإعادة صياغة المعتقدات وتأويلها من طرف حامليها، عبر الأجيال المتعاقبة والسياقات الجديدة، حتى وإن كان هؤلاء الحاملون أنفسهم لا يدركون أنهم قد أعادوا صياغتها.
IV. غيرتز وأيكلمان: مواطن الائتلاف والاختلاف
من الواضح جدا، من خلال ما أوردناه، أنه ليس هناك تعارضا أو تنافرا فيما بين أطروحتي غيرتز وأيكلمان حول الإسلام في المغرب. بيد أن هذا لا يعني أيضا أن إحداهما هي إعادة صياغة للأخرى (وبالأخص أطروحة أيكلمان المتأخرة زمنيا على أطروحة غيرتز). فهي إذن مواطن اختلاف وائتلاف وليست تعارض أو إعادة صياغة.
1. مواطن الائتلاف: المنهج والاستنتاجات العامة
أسفرت مقارنتنا لعملي كل من غيرتز وأيكلمان المذكورين أعلاه على مواطن عدة للائتلاف فيما بينهما على مستوى الخطوات المنهجية المتبعة من جهة، والاستنتاجات العامة التي توصلا إليها من جهة أخرى. فهما يتفقان على عدد من القضايا الأساسية، نجملها فيما يلي:
– عدم توفق الباحثين السابقين لهما في فهم طبيعة الحياة الدينية بالمجتمع المغربي على نحو سليم، بسبب افتقارهما للأدوات التحليلية الملائمة. ونشير بالخصوص هنا إلى موقف أيكلمان من الدراسات الكولونيالية التي، رغم أهميتها الكمية، كانت متجاوزة معرفيا، بسبب افتقارها إلى أدوات التحليل اللازمة من جهة، وكذا ارتباطها بالمشروع الاستعماري من جهة ثانية. كما نشير إلى انتقادات غيرتز للانقسامية، المتجسدة في أعمال كل من إرنست غيلنر ودايفد هارت، إذ تعد الانقسامية من منظوره «نظرية جاهزة كانت تبحث لنفسها عن نموذج ومثال في مجتمعات الشمال الإفريقي»[xvii].
– اختيار مكان البحث وتبرير سلامة التعميم. من المعلوم أن الدراسات الانقسامية حول المجتمع المغربي قد واجهت انتقادات عدة بسبب هذه المسألة، حيث إن غيلنر وهارت وكل الباحثين الذين حذوا حذوهما عمدوا إلى اختيار مناطق قبلية معزولة وبعيدة عن كل أشكال التأثير الخارجي، بما فيه تأثير المخزن، وذلك من أجل تحقيق الشروط المثالية لتطبيق النظرية الانقسامية. في حين حرص الباحثون التأويليون، وفي مقدمتهم غيرتز وأيكلمان، على اختيار مناطق حضرية وأخرى قبلية كانت تقع تحت النفوذ المباشر للمخزن. وعلى الرغم من أن هذه المناطق التي وقع عليها الاختيار، «صفرو» بالنسبة لغيرتز، و«أبي الجعد» بالنسبة لأيكلمان، ليست “ميدل ثاون المغرب” على حد تعبير أيكلمان نفسه – أي مدنا تجمع كافة خصائص المدينة المغربية – فإنهما ، أي غيرتز وأيكلمان، دافعا عن اختيارهما وعلى التمثيلية النسبية التي تحفظ لدراستيهما رصانة ومصداقية في التعميم، رغم أن هذا التعميم لم يقنع بعض الباحثين المغاربة المرموقين[xviii].
– خضوع المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها بالمجتمع المغربي بشكل مستمر لإعادة الصياغة والتشكيل من أجل مسايرة التنظيم الاجتماعي والحس المشترك السائدين، كما فصَلنا في ذلك أعلاه.
– أهمية وحجم دور السلطة المركزية في إعادة إنتاج الأفكار والتنظيمات الدينية وتوجيه الحماس الديني للمغاربة.
2. مواطن الاختلاف: الأسلوب في الكتابة والتصنيف
تتميز كتابات غيرتز بشكل عام وأبحاثه حول المعتقدات الدينية بشكل خاص بأسلوب متفرد في الكتابة والعرض والتصنيف، فهو يكتب في لغته الإنجليزية، بأسلوب أدبي غاية في التعقيد، مليء بالمجازات والتشبيهات، وكثرة الجمل الاعتراضية وفتح الأقواس، إذ لا يعادله فيه سوى أسلوب بورديو في لغته الفرنسية. كما أن طريقته في التصنيف تبتعد عن الأساليب الأكاديمية المعهودة. وقد أضفى هذا التعقيد في الكتابة والتصنيف على أسلوب غيرتز طابعا من الغموض جعل عددا كبيرا من منتقديه – كطلال الأسد، وبول شانكمان، وهنري منسون جينيور – ينعتون دراساته حول الدين بأنها تعاني من “التفاوت الكبير بين التنظير والتطبيق”[xix].
وعلى العكس من ذلك تماما فإن أسلوب أيكلمان في الكتابة والتصنيف يتميز بالوضوح والسلاسة. حيث يَعرض هذا الباحث أفكاره بوضوح بالغ ويحرص حرصا شديدا على أن تكون التصنيفات والتقسيمات التي يقوم بها قابلة للإدراك والاستيعاب دون عسر وعناء؛ هذا دون أن تفقد هذه الأفكار شيئا من عمقها وتركيبها. بالإضافة إلى عنايته الفائقة بالتفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، كما أبان أيكلمان عن معرفته الدقيقة والعميقة بالتاريخ والبنية الاجتماعية للمغرب.
وبغض النظر عما إذا كانت الأنثروبولوجيا التأويلية اتجاها في التحليل أو مدرسة أنثروبولوجية قائمة الأركان، فإن عملي كل من غيرتز وأيكلمان حول الحياة الدينية بالمغرب قد مارسا، ولا زالا، تأثيرا مُهِما على الوسط الأكاديمي المغربي. كما أن علاقة الرجلين العلمية والشخصية حافظت على استقرارها حتى بعد رحيل غيرتز عن هذه الدنيا[xx].
[i] سوف لن تشمل هذه المقارنة مجمل الدراسات التي قام بها هذان الباحثان حول الموضوع المذكور، بل سنقتصر على كتاب Observed Islam لغيرتز، وكتاب Moroccan Islam لديل أيكلمان. ولن تتعدى مقارنتنا هذين العملين الرئيسيين إلا لضرورة ظاهرة.
Dale Eickelman, «Not lost in translation: The influence of Clifford Geertz’s work and life on anthropology in Morocco», The journal of North African Studies, 14:13, 385-395, 2009, p. 393.
[iii] انظر بهذا الصدد كتابنا: الدين والمجتمع، دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2006، ص 67.
[iv] انطلق غيرتز في بناء نموذجه التحليلي من فكرة أساسية مفادها أن جميع الأبحاث الأنثروبولوجية التي أنجزت حول المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها – منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى منتصف الستينيات- لم تأت بجديد نظري يذكر، إذ اعتمدت فقط على الجهاز المفاهيمي الذي خلفه الكبار أمثال دوركايم، ﭬيبر، فرويد ومالونيفسكي. وبناءً على هذا المنطلق حدد غيرتز مهمته في تطوير البعد الثقافي للتحليل الديني مقتفيا في ذلك أثر ﭬيبرومن نحى نحوه.
[v] Clifford Geertz, «Religion as a cultural system», in Anthropological approaches to the study of religion, edited by Michael Banton, Tavistock Publications, 1966, p. 4.
Pierre Bourdieu, «Genèse et structure du champ religieux», Revue Française de sociologie, XII, 1971; Erwan Diantell, «Pierre Bourdieu et la religion. Synthèse critique d’une synthèse critique», Arch. De Soc des Rel, 118, Avril-Juin 2002.
[vii] Dale Eikelman, Moroccan Islam. Tradition and society in a pilgrimage Center, University of Texas Press, 1976, p. 4.
لا يسعنا سوى التنويه بالترجمة الرصينة التي قام بها الأستاذ محمد أعفيف لهذا العمل، والتي سبق أن اعتمدنا عليها في موقع آخر: ديل أيكلمان؛ الإسلام في المغرب، ترجمة محمد أعفيف، دار توبقال للنشر 89/91.
[ix] يبتدئ التاريخ بالمغرب حسب غيرتز بوصول الإسلام في القرن السابع الميلادي، حيث أصبح هذا الدين بعد قرن من وصوله القوة الوحيدة في البلاد، وبعد ثلاثة قرون بدأ عصر «الإسلام البربري» القوي بتعاقب حكم المرابطين والموحدين والمرينيين، إذ تشكَّل المغرب في الفترة الممتدة بين 1050 و1450 كأمة، وأصبح الإسلام دينه القوي. ونفس الفكرة نجدها عند ديل أيكلمان.
انظر بهذا الصدد:
Clifford Geertz, Islam Observed, op. cit., p. 5; Dale Eikelman, Moroccan Islam, op. cit., p. 18.
[xi] لا شك أن استنتاجنا هذا لا يخلو من مغامرة، بيد أننا ارتأينا الإدلاء به لما قد ينطوي عليه من قيمة إبستمولوجية.
[xiii] نظر مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب:
Clifford Geertz, Observer l’islam, Changements religieux au Maroc et en Indonésie, traduit de l’anglais par Jean Baptiste Grasset, Paris, la découverte, 1992.
[xiv] يمكن التشكيك في صلابة هذه الخلاصة الجزئية المتمثلة في التقليل من شأن الحركات الأصولية وتأثيرها على مسار الحياة الدينية بالمجتمع المغربي بحجة غياب غيرتز عن المغرب خلال العقدين الأخيرين اللذين برزت وتطورت خلالهما هذه الحركات، وبسبب أحداث الدار البيضاء ومراكش، التي كسرت ما كان يسمى بالاستثناء المغربي، بالإضافة إلى صعود الإسلاميين المعتدلين إلى الحكم، وإن كان غيرتز قد أشار في خلاصة كتابه إلى إمكانية بروز معارضة أصولية معادية للحداثة من داخل الإرث السلفي.
[xvii] Clifford Geertz, «In search of North Africa», New York Review of books, April 22, 1999, p. 21.
[xviii] محمد جسوس، « جدلية الكم والكيف في الدراسات السوسيولوجية المعاصرة»، ضمن كتاب المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية، تنسيق المختار الهراس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2002، ص 18.
[xix] انظر بهذا الصدد الأعمال التالية:
Talal Asad, «Anthropological conceptions of religion. Reflection on Geertz», Man, 18 (2), June 1983; Paul Shankman, «The thick and the thin. On the interpretive theoretical program of Clifford Geertz», Current Anthropology, 25, 3.1984; Henry Munson, Jr., «Geertz on religion: the theory and the practice», Religion, 16, London, Academic Press Inc., 1986, pp. 19-32.
[xx] سمحت لي الظروف بمجالسة الرجلين، وكان كلما ذكر اسم أحدهما في غياب الآخر، أكد كلاهما على الاحترام والتقدير والصداقة المتينة التي تجمعهما. ويعتبر مقال أيكلمان المشار إليه أعلاه حول تأثير أعمال غيرتز على الأنثروبولوجيا بالمغرب، أحد المؤشرات الدالة على هذا الاستقرار المتبادل، عكس ما وقع في علاقة غيرتز مع هليدرد ورابينو
تبقى دراسة المختلف عن العالم العربي بالأدوات والمناهج المختلفة ضرورية لكن الاهم دراستها ونقدها نقديا علميا يقدم للقارئ سواء العربي او المختلف الوجه الصحيح لما درسه المختلف فمثل هذا المقال له اهمية في هذا المسلك المنير
شكرا أستاذي الكريم
محمد بيلبشير أستاذ الانثروبولوجيا جامعة تلمسان