المصطفى بوعزيز، الوطنيون المغاربة في القرن العشرين 1873 إلى 1999، دار النشر إفريقيا الشرق. 2019.
أصدر المؤرخ المصطفى بوعزيز كتاباً هاماً ومرجعياً في مساره العلمي بعنوان: “الوطنيون المغاربة في القرن العشرين 1873 إلى 1999.” ويقع المؤلف، وهو في الأصل أطروحة جامعية، في جزأين: الأول بعنوان: “الارتباط العضوي بين السياسي والاجتماعي”، والثاني بعنوان: “الراديكالية والاندماج السلبي في الدولة”. وتظهر في عتبة الكتاب في غلاف جزئه الأول صورة مجموعة من المغاربة الذين شاركوا في المسيرة الخضراء، وفي الجزء الثاني صورة لجماعة من المتظاهرين والمحتجين، وهو اختيار له دلالاته.
يواصل المصطفى بوعزيز، المؤرخ، عبر هذا الإصدار، البحث في الأفكار والعقليات أو البنيات ليراكم على ما بناه على مدى سنوات طويلة من أبحاث في الوقائع التاريخية عبر مؤلفات سابقة مثل: “في أصول الكتلة الديمقراطية”، و”اليسار المغربي الجديد، النشأة والمسار”، وغيرهما. ويمكن اعتبار هذا الكتاب “محاولة للخروج من التاريخ الدقيق إلى تاريخ العقليات”، أو “مراوحة بين الأصول والزمن الراهن”، حسب لمؤرخ لطفي بوشنتوف.
يبحث الكتاب في قضايا التحديث في المجتمع المغربي وفي صدمة العلاقة مع الآخر. وهي صدمة حداثة يعتبرها بوعزيز هي التي أدت إلى توجهين في المغرب: الأول عبارة عن رد فعل هوياتي رافض للحداثة. والثاني تبنى استنساخ وزرع الحداثة بقوة. ولهذا يدعو إلى ضرورة خلق حداثتنا الخاصة، وأن يكون نموذجها، على الصعيد السياسي، هو دستور 1908 الذي عالج بجرأة مبكرة قضايا ما زالت مطروحة إلى اليوم، مثل التربية وإجبارية التعليم، وأجور الوزراء، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والملكية البرلمانية.
يرى المؤلف أن الوطنية تعني “في العمق خلق بنية جديدة وحداثية، ولكنها حداثة مغربية وليست مستنسخة”، ويؤمن في هذا السياق بأن “الوطن ليس هو الأمة التي لها بعد ديني”. ويعتبر لطفي بوشنتوف أن مصطفى بوعزيز يحاول البحث عن العطب، ويرى “أننا لم نستطع الانتقال من الوطن الروحي إلى الوطن السياسي؛ أي إلى وطن المواطنة”. ويستعمل الكاتب مصطلحي “الوطنيون” و”الحركة الوطنية” لأداء نفس المعنى في الكتاب. وكان عبد الله العروي في دراسته الشهيرة عن “الأصول الاجتماعية والثقافية للنزعة الوطنية المغربية” قد اختار أن يتناول بالدرس الفترة الممتدة من 1830 إلى 1912. ويصادف العام 1830 سقوط الجزائر في يد الاستعمار الفرنسي، وهي محطة شكلت في رأي العروي “بداية مرحلة جديدة في تاريخ المغرب المعاصر”. ويستشهد مصطفى بوعزيز بكتاب عبد الله العروي هذا كإحدى الدراسات الجادة حول صلة الفكر السياسي الحديث في المغرب بالتطور السياسي والاجتماعي. ويعتبر أن سنة 1830 هي فعلاً “تاريخ ميلاد الوطن المغربي المعاصر”. ومع ذلك ارتأى بوعزيز أن يدشن بحثه حول الوطنيين المغاربة بتاريخ اندلاع ثورة الدباغين في فاس سنة 1830. باعتباره محطة مرجعية في البحث والتحقيب؟ مع تأكيده أن عمله يشكل تكملة لأبحاث عبد الله العروي التي توقفت عند محطة معاهدة الحماية في سنة 1912.
اعتمد الباحث منهجياً على مفكرين ومؤرخين مثل بيير بورديو (مفهوم الحقل)، وروني غاليسو (الحركات الإحتجاجية)، وجاك لوغوف (مفهوم الأصول)، وغيرهم. وقد اختار بوعزيز التركيز على إشكالية فشل الأنتليجينسيا المغربية طيلة حوالي قرنين في تبني الحداثة و”القطيعة مع المحافظة كثقافة وسلوك سياسي”. ويرى أن التاريخ المغربي خلال هذه الفترة المدروسة (1873 إلى 1999) شهد “لحظات وأقواساً” تاريخية، من أهمها قوس الدساتير والأحزاب الوطنية، وقوس تنظيم المسيرة الخضراء، ورفع الحظر عن الأحزاب بعد الاستقلال، ثم قوس حكومة التناوب، أما القوس الأخير في رأيه فهو حركة 20 فبراير التي ظهرت في 2011. وهي حركة احتجاجية توقف عندها الكاتب بتحليل عابر متجاوزاً التحقيب والمنطق الذي بنى عليه أطروحته التي تنتهي في 1999.
يعتبر المؤرخ عند تحليله للحركات الاجتماعية أن النموذج المغربي في الاحتجاج يتميز عن مثيله في مصر أو السودان مثلاً. ويتميز النموذج المغربي بعدد من الخصائص، من أهمها قصر المدة، وحضور الشباب، ووقوع انفلاتات، ثم إعادة التوازن إلى النظام القائم. وهذه الخصائص يمكن تتبعها ورصدها بنيوياً منذ أمد بعيد؛ إذ تنطبق مثلاً على ثورة الدباغين في فاس في 1873، التي درسها المؤرخ عبد الأحد السبتي من قبل، كما أنها تنطبق على حركة 20 فبراير 2011. وبحسب هذا المنطق وهذه القراءة الخاصة للنموذج المغربي، وعندما يطرح على مصطفى بوعزيز سؤال هل التاريخ يعيد نفسه في المغرب؟ يجيب قائلاً: “هناك ما يعاد إنتاجه وهناك ما يتغير”، لكنه يؤكد بأن “الباحث الذي يحترم نفسه يحمل دائما الأمل”.