Bas van Bavel, Daniel R. Curtis, Jessica Dijkman, Matthew Hannaford, Maïka de Keyzer, Eline van Onacker, Tim Soens. Disasters and History: The Vulnerability and Resilience of Past Societies (Cambridge: Cambridge University Press, 2021), 244p.
باس ڤان باڤيل (Bas van Bavel)، دانيال آر کورتيس (Daniel R. Curtis)، جيسيکا ديکمان (Jessica Dijkman)، ماثيو هانافورد (Matthew Hannaford)، مايکا دي کيزير (Maïka de Keyzer)، إيلين ڤان أونکر (Eline van Onacker)، تيم سوينز(Tim Soens) .- الکوارث والتاريخ: ضعف المجتمعات في الزمن الماضي ومرونتها (کامبريدج: مطبعة جامعة کامبريدج، 2021)، 244ص.
في تقديمهم لهذا الکتاب الجماعي، الصادر مطلع هذا العام بعنوان “الکوارث والتاريخ”، وقع التشديد على وضعه في سياق أربعة تطورات رئيسة حدثت خلال العقد الماضي أو نحو ذلک في المجال الواسع المتعلق بـ “تاريخ الکوارث”. وفي مقدمتها الاعتراف المتزايد بأهمية الدور الذي تضطلع به الظروف والأحداث الطبيعية في تحديد النتائج التاريخية؛ وثانيًا، الاستخدام المتزايد للمصادر غير الوثائقية، بما في ذلک معطيات الحمض النووي وحلق الأشجار والتراکمات الجليدية، مع السعي لإيجاد العلاقات ذات الصلة للربط بين العلوم الطبيعية والاجتماعية؛ وثالثًا، إنشاء قواعد بيانات رقمية کبيرة جدًا للمعلومات؛ ويتمثل التطور الرابع، في هيمنة تدريجية لإطار تفسيري شمولي للکوارث التي تؤکد على مرونة المواجهة، والتکيف بشکل أکثر تحديدًا. ومن بين الأهداف المسطرة لهذا الکتاب، محاولة تتبع هذه التطورات وتوضيح کيفية تشكيلها لطبيعة فهمنا الحالي للتفاعل الحاصل بين الکوارث والتاريخ.
غير أن مؤلفي هذا الکتاب الجماعي، يؤكدون أيضا على أن الأهم من ذلک، في نظرهم، هو ضرورة المجازفة بتقديم بعض الانتقادات. وقد اختاروا من موقعهم کفريق من المؤرخين يحاولون الکتابة مع الترکيز على التاريخ الاجتماعي، أن يقترحوا من خلال مواد الکتاب، أنه على الرغم من أن التفاعل المرغوب فيه مع علماء الوراثة وعلماء المناخ والإحصائيين وما إلى ذلک، قد کانت له عدة مزايا جديدة لدراسة الکوارث في الماضي، فإنهم لم يفتهم التذكير أيضًا بالحاجة إلى مواصلة الاهتمام بالمهارات التاريخية “التقليدية” على النحو المعهود لديهم، ولا سيما منها تقييم البيانات الجديدة فيما يتعلق بنقد المصادر ووضع الأدلة في سياقاتها.
وبالنظر إلى الترکيز على التاريخ الاجتماعي، فإنهم يلحون على عدم التغافل عن أهمية العلاقات الاجتماعية، وأيضا عن التفاوتات القائمة على صعيد الفرص المتاحة من حيث إمکان الوصول إلى الموارد، من قبل مختلف الفئات الاجتماعية. كما أن لديهم اقتناع بأن التاريخ يُظهِر بوضوح، کيف أن النظم الاقتصادية والمؤسسية والزراعية والبيئية، غالبًا ما تتسم بالمرونة في مواجهة الأخطار الکبيرة التي أدى العديد منها إلى الکارثة، وهذا في الوقت الذي تکون فيه مجموعات اجتماعية مهمة داخل تلک الأنظمة نفسها ضعيفة في معظم الأحيان، وتعاني من مصاعب شتى؛ أي أنهم يحرصون، في کافة الأحوال، على ضرورة أخذ هذا الواقع بعين الاعتبار.
وانطلاقا من هذه النقاط الأساسية، يقترح المساهمون الوافدون من تخصصات متنوعة، في کتابهم الجماعي هذا، تقديم أول نظرة تاريخية عامة عن الأخطار والکوارث، تکتسي صبغة الاستعراض الشامل. واستنادا إلى سلسلة من الدراسات المتعلقة بحالات معينة، مرورا بالطاعون الأسود، الذي انطلق من شواطئ البحر الأسود حوالي عام 1340، وانتشر بسرعة في أوروبا وبأجزاء من آسيا، فذهب ضحية لفتکه 75 مليون شخص؛ إلى زلزال لشبونة، الذي وقع سنة 1755 وأتى على عاصمة البرتغال بالکامل تقريبًا مخلفا وراءه 60.000 ضحية؛ وأيضا کارثة فوکوشيما التي ترتبت على زلزال قوي وموجة تسونامي کاسحة ضربت اليابان في 11 مارس 2011، مما جعل محطة فوکوشيما دايتشي للطاقة النووية تعاني من عطل في نظام التبريد، هدد بانبعاثات مشعة في المحيط الهادئ والمنطقة المحيطة.
وانطلاقا من دراسة کل هذه الحالات عن کثب، قدم المؤلفون على صعيد الساحة العلمية مساهمتين جديدتين: أولاهما محاولة إدخال حقل “دراسات الکوارث” في مجال البحث التاريخي، فأوضحوا في هذا الصدد کيف يمکن توظيف التاريخ لتحقيق فهم أفضل لکيفية تعامل المجتمعات مع الصدمات والمخاطر، تحسبا بذلک لمواجهة عواقبها المميتة المحتملة. وثانيهما، أنهم يقدمون موضوع الکوارث ومجالات دراساتها للمؤرخين، حتى يظهروا لهم بوضوح مدى أهمية دراسة الکوارث السابقة، للتمکن من فهم الأداء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمعات السابقة أيضا.
ويعتقد هؤلاء المؤلفون، على الرغم من اختلاف مشاربهم، أنه غالبًا ما تکشف الکوارث عن خصائص المجتمع وعن سماته التي تظل محجوبة في الحالات العادية عن أعين المؤرخين، فذکروا مثالا على ذلک، الضعف المتأصل لفئات معينة داخل المجتمع، أو ظهور بعض المؤشرات الدالة على وجود علاقات سلطوية غير متكافئة.
ويقترح المؤلفون في البداية، نهج مقاربة نظرية يتم السعي من خلالها لفهم أصول ظهور الکوارث وأسباب وقوعها. وفي هذا السياق، برزت جملة من المخططات أو النظريات والنماذج التفسيرية، الرامية، ليس إلى شرح آليات النمو الاقتصادي والازدهار فحسب، بل إلى تفسير نقيضيهما أيضًا، ويقصدون بذلک آليات حدوث الأزمات والانهيارات. وفي هذا الصدد، تمت مناقشة ثلاث مدارس فکرية محددة.
ومن وجهة النظر المالتوسية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني توماس مالتوس، 1766-1834)، فإن الکوارث ليست سوى نتيجة لنقص يحصل في الموارد، مثل قلة المواد الغذائية الضرورية لتلبية احتياجات السکان من القوت اليومي. ومع ذلک، فإن التحدي الرئيسي للتفسيرات المالتوسية للأزمة في أواخر العصور الوسطى قد تم طرحه من خلال التحليلات المارکسية للصراع الطبقي وتوزيع وسائل الإنتاج بين مختلف فئات المجتمع.
أما من وجهة النظر المارکسية، فتعتبر الکوارث مجرد نتيجة حتمية لتوزيع غير متکافئ، إذ تُحرم مجموعات معينة من الوصول إلى الموارد بسبب الصراع الطبقي المجتمعي. وأخيرًا، فإن النهج الرئيسي الثالث لفهم الأزمات والکوارث، والوقاية منها أو التخفيف من حدتها، هو ديناميَّات السوق – ويشار إليها أيضًا بمقاربة سميثسونيان (نسبة إلى الکيميائي البريطاني جيمس سميثسون 1765-1829 المتخصص في علم دراسة المعادن) أو مقاربة التحديث. ويرکز هذا الإطار على النمو الاقتصادي عبر التسويق وتقوية حركية الأسواق، حيث شجع توسع هذه الأخيرة المنتجين على التوجه تدريجيا نحو التخصص، کما أتاح التقسيم المتزايد للعمل إلى وجود وفرة کثيرة في حجم الاقتصاد، وأفضى تبعا لذلک، إلى تحقيق مكاسب على صعيد الإنتاجية.
ويقترح المؤلفون تصنيفا للكوارث عبر استعراضهم لمقدمة نقدية حاسمة للمفاهيم الأساسية المستخدمة في دراسة الکوارث، وفي مقدمتها المفاهيم المتداولة في الأدبيات المتعلقة بدراسات الکوارث، والموَظَّفة کذلک في مجالات أخرى ذات صلة، مثل العلوم البيئية واقتصاديات التنمية. لکن الأهم من هذا، على وجه الخصوص، هو مسألة الإشارة إلى خاصيتي الضعف والمرونة وأبعادهما الزمنية. ويُستخدم مفهوم الضعف أو الهشاشة للتعبير عن حالات “التعرض للمخاطر والإجهاد وتحديات التعامل معها وصعوبات مواجهتها”.
وهكذا، فإنه سرعان ما أصبحت القدرة على التحمل والصمود، تجسيدا لکلمة طنَّانة تتردد أصداؤها کثيرا في الدراسات المتعلقة بالکوارث في بداية القرن الحادي والعشرين. إن أصول لفظة المرونة أو القدرة على التحمل، – مصدرها الکلمة اللاتينية (resilire) تعني حرفياً “القفز إلى الوراء”، تعود إلى أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، عندما تم استخدامها کمفهوم وقع تبنِّيه في حقول معينة، مثل علم النفس والعلوم الهندسية وضوابطها (للحديث عن قدرة المواد على امتصاص الصدمات واستمرارها). ومع ذلک، فقد انتقل هذا المفهوم من تحليل النظم البيئية إلى الدراسات الخاصة بالکوارث. ولم يتردد المؤلفون في الاعتراف صراحة بأن استخدام مثل هذه المفاهيم يظل غير متسق، بل ويصبح أحيانًا غامضا عبر مختلف التخصصات والسياقات.
وفضلا عن الترکيز على المعاناة من حالات التعرض المادي للمخاطر الطبيعية، وبصفة أکثر أهمية من ذلک، التأکيد على القضايا التنظيمية المتعلقة بالمجتمع التي تترتب عليها بعض نقاط الضعف الموجودة مسبقًا في أوساط بعض السكان، يسعى هذا العمل الجماعي الرائد إلى تسليط الضوء على عنصر أساسي آخر، في محاولة تتوخى فهم حدوث الکوارث وتقدير أهمية وقعها المتعدد الأوجه والبالغ التأثير، ألا وهو مفهوم “الخطر واحتمالات وجوده”. ويرتبط هذا الخطر بالقوة البشرية، أي بفعل الإنسان، وبمدى قدرته على الإدراك وفقا للتصورات البشرية، واللذين يتم الاسترشاد في شأنهما باستراتيجيات يضعها الأفراد، أو تستخدمها الجماعات لإنجاز حسابات الحدوث المحتمل للضرر.
ويبين المؤلفون کيف تختلف عواقب هذه الکوارث اختلافاً کبيراً، ليس من مجتمع إلى آخر فحسب، بل أيضاً داخل المجتمع الواحد، وذلک وفقاً للفئات الاجتماعية والعرق ونوع الجنس. وتتناول أيضا جملة من المواضيع الرئيسة الخاصة بالكوارث والتاريخ. ويذكرون من بين الجوانب الهامة، خاصيات التوقع أو الترقب والاستعداد أو الإعداد، ثم عنصر الذاكرة. وفي كثير من الأحيان، غالبا ما تکون المخاطر والكوارث التي تحدث غير متوقعة. وإن الهدف العام مما جاء في هذا الكتاب، الذي يزاوج بين الكوارث والتاريخ، هو تسليط الضوء على کيفية استخدام التاريخ لتوضيح کيف أن هذه الصدمات والمخاطر الفيزيائية الحيوية، التي تؤدي أحيانًا إلى وقوع الكوارث، قد تسهم في الدفع بالمجتمعات في اتجاهات مختلفة، مما يتيح إمكان وجود مجموعة متنوعة من النتائج الاجتماعية والاقتصادية المحتملة.
وعلاوة على ذلک، يهدف هذا الكتاب إلى تحديد النماذج والآليات المستخدمة التي ينطوي عليها تحقيق هذه النتائج. ويتعمق باس ڤان بافيل وبقية المساهمين معه في هذا العمل الجماعي المحکم البناء في فرضية مركزية مفادها إمکان توظيف التاريخ في هيئة “مختبر” لقياس النظريات ذات الصلة بالموضوع، وامتحانها خارج السياقات المکانية والزمانية الخاصة، وعلى النحو الکفيل بتجاوزها.
ويتعلق الأمر هنا باقتراح نهج تحليلي للتاريخ، لا يقتصر الهدف منه على الاکتفاء بتقديم کتابة سردية لقصة الماضي، أو بالاهتمام بتقديم وصف لأحداث ذات أهمية بارزة، أو وضع بناء لسلسلة زمنية تخص ظواهر معينة، بل يهدف إلى تطوير الفرضيات مع الحرص على إخضاعها للفحص والاختبار.
وبوجه خاص، تشکل دراسة الكوارث مناسبة لتحقيق هذا الغرض، وذلک لثلاثة أسباب رئيسة. أولهما، أن يتم، بوجه عام، توثيق الأخطار والکوارث والآثار المترتبة عليها بطرق جيدة، استنادا في ذلک إلى المصادر والأدبيات التاريخية المکتوبة عبر مختلف بلدان العالم، وهذا ما يتيح إمکان تتبع أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بدرجات كبيرة من التبصر والإمعان، على امتداد الزمن وتعاقب الأحقاب. ثانيهما، أن المخاطر البيئية تحدث على مستويات ونطاقات متعددة، مکانية وزمنية في الوقت ذاته، وتواجه استجابات وتأثيرات متباينة على هذه المستويات والنطاقات، مما يسمح بإجراء مقارنات تمکن، تبعا لذلک، من اقتراح نقطة مقابلة لقيود التحليل الوصفي ومحدوديته. ثالثهما، أنه عندما يفتقر هؤلاء المؤلفون إلى معلومات مکتوبة عن المخاطر ذاتها، وبغض النظر عن تأثيرها، يمکنهم استخدام أشکال معرفية أخرى مثل التقديرات التقريبية العلمية کأساس مرجعي يقع اعتماده لتعزيز الإحالات عليها.
ومن وجهة نظر هؤلاء الکتاب، فإن التاريخ البشري تجسيد حقيقي لسلسلة متلاحقة من القصص التي تحكي عن وقوع سلسلة من الکوارث. وظلت البشرية حريصة، منذ نشأتها، على رغبتها في دراسة أسباب الكوارث وتعداد نتائجها، مع الخوض في المحاولات الرامية إلى تفاديها، أو التخفيف منها على الأقل.
وقد جاء استلهام هذا الأمر بشکل أساسي من مبارکة روحانية مصدرها قِوَى سماوية باطنية، کما هو الحال مع ما يسمى بـ “التفويض السماوي” (“Mandat du Ciel”) المتداول في أزمنة الصين القديمة، حيث کان إمبراطور الصين مسؤولاً وقتئذ عن رفاهية الأمة وازدهارها. وحالما اندلعت کوارث ما من قبيل ضعف المحاصيل، أو انتشار الاضطرابات في صفوف المدنيين، إلا واعتُبِرت علامة يُستدلُّ بها على سحب السماء لذلک التفويض من صاحبه.
وتبعا لذلک، تضمن التاريخ الرسمي لکل سلالة حاکمة في الصين قسمًا فرعيًا مما سمي بـ “المراحل الخمس” أو “العناصر الخمسة”، يتضمن سردا لبعض حالات الطقس الشاذة وبعض الكوارث، مثل وقوع الفيضانات أو حتى ظهور التَّنانين (مفردها تِنِّين). وعلى نحو مماثل، حدد ابن خلدون في شبه الجزيرة العربية وبلدان المشرق، المعالم الخاصة بدائرة دائمة عن الأسر والحکام الصاعدين والمختفين، الذين يتولون سدة الحکم بالوصول إلى السلطة في حالة أزمة، ثم سرعان ما يموتون أيضًا في سياقات مماثلة.
ويذكر المؤلفون من بين النماذج المدروسة بطريقة جيدة للسياق الأوروبي “نموذج البُّولدر” المتعلق بالأراضي المستصلحة في هولندا على حساب البحر؛ ففي مواجهة مع الفيضانات المستمرة، وما يترتب عليها من خسائر وفقدان للأراضي، اضطر المجتمع الهولندي إلى تطوير نوع من النظام الاجتماعي في غاية التوازن، للحصول على الأرض بغية حيازتها، وتوفير الحماية لأولئك الذين يمتلكون تكنولوجيا متطورة للغاية في هذا الباب. وبعد أن کانت البشرية تعيش تحت رحمة العناية الإلهية ورهينة بها، حصلت تطورات متلاحقة جعلت الجنس البشري يصبح، بمرور الوقت، أكثر إدراكا ووعيًا بقدراته الخاصة.
وإلى حدود سنوات التسعين من القرن الماضي، کان يُنظر إلى الكارثة ببساطة على أنها مجرد تعبير عن حدوث اضطراب ما في يقع في أوضاع الحياة الطبيعية، أو بما کان يُشار إليه أثناء انتشار جائحة کوڤيد (COVID-19) الراهنة على أنه تجسيد لحالة “الوضع الطبيعي الجديد”، أو أنه لا يمثل سوى “حالة عادية جديدة”.
ومن ناحية أخرى، يکشف المؤلفون في هذا الكتاب الجماعي، عن تطور مهنة من نوع جديد، يطلق على أصحابها اسم الخبراء. وفي واقع الأمر، تمکن الكوارث من اختبار مدى قدرة المجتمعات على اكتساب التعلم وتحقيق التکيف تفاديا لتکرار حدوثها، أو على الأقل للتخفيف من تأثير الصدمات اللاحقة ومن شدة وقعها. ومثال ذلک ما يتعلق بالملاحة، إذ کان الخبراء، استنادا إلى تجربتهم الميدانية، من البحارة المتمرسين الذين يمتلكون خبرة طويلة على متن السفن والمراکب.
وخلافا لذلک، فقد تم التعبير في بداية القرن السادس عشر، عن الخبراء والخبرات بشکل متزايد في نماذج ذات أنماط إحصائية خاصة. ونتيجة لذلک، سرعان ما بدأ التعلم من التجربة يتحول ببطء إلى تعلم من النظرية، مما غيَّر طرق تراکم المعرفة وأنماطها. ومع ذلک، يحذر المؤلفون من الاحتياط أمام المجازفة باعتبار أي شکل من أشکال المعرفة بأنه يکون دائمًا سياقيًا وبالضرورة. وبالإحالة على دراسات تتعلق بکثير من الحالات المختلفة، يتضح أن نموذج تدبير المخاطر قد لا يخدم المقاربة القائلة بإمکان وجود “خطر واحد للجميع”، وذلک عندما يتعلق الأمر بمحاولة التصدي لأنواع أخرى من التحديات بغية معالجتها.
وبعد مناقشتهم لسلسلة من الحالات المدروسة، حدد المؤلفون الأخطار ذات الصبغة العالمية المحتمل وقوعها في المستقبل. ويذكرون في هذا الصدد، التغيرات المناخية في مرحلة الأنثروبُّوسِين (lʼanthropocène)، (حقبة تُميِّز جميع الأحداث الجيولوجية التي شهدها تاريخ الأرض منذ أن أصبح للأنشطة البشرية تأثير عالمي کبير على النظام البيئي للأرض) والرأسمالية ومجتمع المخاطرة. ومع ذلک، فإن الكوارث تؤثر على کل مکونات المجتمع، وإن لم يکن يحدث ذلک على قدم المساواة، ويتأسف المؤلفون، على وجود حلقة مفقودة لسد فراغات التخصصات المتعددة بغية الوصول إلى تحقيق التعاون في حقل دراسات الكوارث.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، تمکن أولريش بيک (Ulrich Beck)، عالم الاجتماع الألماني، من صياغة مصطلح من ابتکاره الخاص، سماه بـ”مجتمع المخاطر“. ويتأتَّى تحديد هذه الأنواع من المجتمعات، حسب تخصيص الموارد، بدرجة أقل، مما يقع تحديده عبر التعرض للمخاطر. ويبين کتاب الكوارث والتاريخ، کيف أن تاريخ البشرية هو مجرد رواية لقصة دائمة تخص تعاقب وقوع الكوارث وکيفيات التعامل معها. ومع ذلک، يسعى المساهمون في هذا التأليف الجماعي، لتشجيع القراء على النظر إلى التاريخ بوصفه مختبرا للتعلم والاستعداد لمخاطر المستقبل، وذلک باعتبارهم للتاريخ، على امتداد صفحات الكتاب، بأنه لا يمثل شيئا من الماضي فحسب، ولکنه يجسد الحاضر بعينه، في هيئة سلسلة متواصلة لا تنفصم عن الماضي.
وتدعو مضامين کتاب الكوارث والتاريخ إلى أهمية المجازفة بالخوض في محاولة تعميق حقل دراسات الكوارث. كما يسعى لإثراء مناهج الدراسة المعاصرة للكوارث، وتعزيز مقارباتها، وهذا مع الحرص أيضًا على تقوية المقاربات والمنهجيات المستخدمة في مادة التاريخ کتخصص. ويظل تاريخ الكوارث، ضمن مجالات البحث التاريخي الحديثة جدًا، والذي لم يلفت الانتباه إليه إلا مع حلول أواخر تسعينيات القرن الماضي. وتبعا لذلک، لم يتأثر هذا الحقل الجديد، بشکل کبير، بالتقاليد القديمة ذات الصلة بدراسات حالات الضعف والهشاشة، والتي استهدفت على وجه التحديد، الکشف عن الأسباب الأساسية والهيکلية لوقوع المخاطر والأضرار.
وفضلا عن اهتمامه بدراسة کثير من الحالات المعينة، يوفر هذا الكتاب للمبتدئين والخبراء، على حد سواء، أدوات علمية ذات طبيعة متعمقة، تسهم في المساعدة على تصميم مصطلحات محددة من قبيل المخاطر، أو الضعف والهشاشة، أو التکيف والمرونة، بغية تحقيق القدرة على تحديد هذه الظواهر وقياسها. وإذا ما أخذنا واقعنا الراهن بعين الاعتبار، وخاصة في أوقات انتشار الوباء في صورته الأکثر خطورة وفتکا، کما يمثلها الکوڤيد 19، فإن مضامين هذا الکتاب الحديث الصدور، کفيلة بالاستخدام کدليل للاسترشاد به في عالم متصل، بوتيرة متزايدة وسريعة، وفي أجواء مليئة بالمفاجآت المتلاحقة.
وفضلا عن هذا وذاک، فإننا أمام مؤلف أصيل ورائد قوامه التفاؤل، والتحفيز على التحلي بالشجاعة، بحکم إصرار مؤلفيه على کشف الستار عن الجوانب الإيجابية التي يمکن أن تظل حاضرة حتى في الأوقات العصيبة. بمعنى أن کل أزمة جديدة، من شأنها أن تتيح أيضا فرصة حقيقية وغير متوقعة، لخوض غمار التعلم للتحكم في مقاليد الأمور، وتحديد الکيفية الملائمة لتحسين الوضع الراهن. وخلاصة القول، هي أنه في إمکان المؤرخين أيضا تقديم إسهامهم القيِّم في هذا النقاش الشمولي الذي يهم الجميع، وفي كل ربوع المعمور، شريطة العمل على تجديد طرقهم ومقارباتهم المستخدمة في عمليات التحليل، للترکيز بالأساس على ضحايا الكوارث، والکشف عن أسباب ضعفهم وقدرتهم على التأثير في الوقاية من الكوارث وحسن تدبيرها لتحقيق الخلاص بالتعافي منها.