Héloïse Lhérété, «Entretien avec Boris Cyrulnik», Sciences Humaines, Hors-série, (Paris) Juin- juillet, 2021, pp. 39- 43.
بوريس سيرولنيك
بوريس سيرولنيك (Boris Cyrulnik): أخصائي في طب النفس العصبي، ومدير تدريس الدبلوم الجامعي: «عيادة الأنظمة الأسرية التعلّق بها». عُرف سيرولنيك بترويجه لمفهوم «المرونة النفسية» résilience. آخر أعماله المنشورة هي: “في الليل سأكتب شموساً” (أوديل جاكوب، 2019)، “أرواح وفصول” (أوديل جاكوب 2021)، “الحرّاث وآكلو الرياح: حرية داخلية وعبودية مريحة” (أوديل جاكوب، 2022).
تُنَشِّط القراءة أحلام اليقظة والاستكشاف العقلي. وتُساعد على سرد القصص، وهي في الآن نفسه، عملية حيوية سواء بالنسبة للأفراد أو المجتمعات.
إلى متى ترجع أولى ذكرياتك عن القراءة؟
لدي ذكرى محددة. اختفى والِدَيَّ خلال الحرب. لم يكونا ميتين، بل اختفيا… فاستقبلتني في مدينة بوردو عائلة من الصالحين تُدعى عائلة فارج. ذات يوم، بعد التحرير، وبينما أنا تحت الطاولة، سمعت السيدة فارج تخاطب ابنتها مارغو بغضب: «ألم تفهمي أن والديْه لن يعودا أبداً؟ أبداً؟» كنت حينها ابن سبع سنين. أدركت عندئذ أن والديَّ قد ماتا. أموات-مختفون، ولن أحصل أبداً على شهادة وفاة. قد يبدو هذا أمراً غريباً بالنسبة لكِ، فقد كانت ردة فعلي الأولى هي أن قلت لنفسي: «يجب أن أتعلم القراءة، لأنني يجب أن أتحدث عنهما في إحدى مذكراتي، وبذلك سأتمكن من معرفتهما».
وكان خلف هذه الرغبة أيضاً إرادة فهم ما يمكن أن يجري في أذهان الآخرين. كان لدي حدس منذ وقت مبكر جداً بأن الكتب وحدها تسمح بهذا، أي: زيارة عوالم ذهنية أخرى. أردت أيضاً أن تكون لدي القدرة على كتابة قصة والديَّ، لإضفاء بعض الكرامة على اختفائهما، كما فعل جورج بيريك. وفي الآن نفسه، كنت آمل أن أصبح طبيباً، فقد قيل لي بأن ذلك كان حلم والدتي. هذه إذن هي نقطة البداية الاستيهامية لمساري الحياتي. قلت لنفسي ليس هناك شيء يمكن أن يجعل المرء سعيداً أكثر من أن يصبح طبيباً وكاتباً.
كتبت قائلاً في عملك: “في الليل سأكتب شموساً”، بأن الكتب «أنقذتك». بأي طريقة حصل ذلك؟
لقد عشتُ في خطر مميت خلال الحرب، لكني عُوملت بمودة. فقد جعلني الصالحون الذين استقبلوني بينهم أعيش في أمان. في مقابل ذلك، وخلال مرحلة التحرير، فقد عانيتُ تَصحّراً عاطفياً، بانتقالي من مؤسسة إلى أخرى. كان الكثير منها يسيء المعاملة مع الناس، ويُشغِّل مشرفين عدوانيين وقساة. لذلك فقد كان الجمال الوحيد الذي استطعت بلوغه، هو الذي يتمثل في أحلام اليقظة. لقد كان للكتب ميزة هائلة من خلال مَدِّي بذرائع لحلم اليقظة، إذ ساعدتني على خلق حكايات. لم أكن أطالع كما أفعل اليوم من أجل العثور على أفكار أو لقضاء وقت ممتع، بل كان الأمر مختلفاً تماماً. إن أحلام اليقظة تسمح لنا بتشكيل عالم يناسبنا. فقد وجدت هذا لدى الأطفال الذين نشأوا في دور الأيتام الرومانية. كانوا يصنعون عوالم من الجمال بأغلفة الحلوى والخيوط المذهّبة، متخيلين أن والِدةً تمنحها لطفلها. لقد استمدوا منها أحلام يقظة رائعة، كانت غالباً رفقة حيوانات. وسمحت لهم هذه الألعاب بإثارة إحساس عاطفي. وأتذكر من جهتي حلم يقظة ألفيتُ فيه جذع شجرة مجوّف، فنزلت إلى أسفل؛ ووجدت نوراً وحيوانات عثرتُ بينها على ملجأ لمواجهة وحشية العالم. لقد عشت في عالم منقسم. فهناك من ناحية الواقع الوضيع، والبغيض، والمميت، والعدائي، والازدرائي. ومن ناحية أخرى، كان هناك عالم من الجمال والدفء، والعاطفة، والإحساس الشديد. والحق أن القراءة والحلم فتحا لي باب هذا الكون.
بمجرد ما تعرف القراءة، كما كتبت قائلاً، تصبح قارئاً، ولا ترجع مطلقاً كما كُنْتَ، بل وتكون قد غيرتَ طريقتك لتصبح إنساناً. ما الذي يتغير عند هذه النقطة؟
هذه فكرة استعرتها من الباحثة الإثنولوجية فَنْسيان دي بري. يعيش الطفل في كوكب أول، قبل أن يبلغ مرحلة الكتابة. يكفيه فقط أنه محاط بالبشر لكي يتعلم الكلام. فكوكب الكلمات المنطوقة، كوكب تفاعلي: يمر عبر تَشْرِيبٍ يبدأ منذ المرحلة الجنينية. فعندما تتحدث امرأة حامل، فإن الترددات المنخفضة لصوتها، تجعل فم ويد الجنين تهتزان. فعند الولادة، يكون لهذا الإنسان الصغير بالفعل رباط ألفة مع ذلك العملاق الحسي الذي سيناديه «أمي». إن كوكب الكلمات المقروءة أو المكتوبة مختلف جداً. لا يبلغه الطفل إلا بفعل مجهود فكري. فيتوجب عليه أن يبحث عن دلالة هذه الحروف، هذه العِصي، هذه المعارف الأولية ليتدرب على فك شفراتها وكتابتها. بينما تُكتسب اللغة المنطوقة من خلال الاستمرارية، فهناك روبيكون [نهر بإيطاليا] من اللغة المكتوبة. أضف إلى ذلك أن الأمر لا يتعلق هنا بتشكّل نفس مناطق الدماغ عند تعلم الكلام والقراءة. إن تطور اللغة الشفهية يفضي إلى نحت الجزء الأمامي من الفص الصدغي الأيسر، بينما يُشَكِّل تعلم الكتابة الجزء الخلفي من الفص الصدغي الأيسر. إذن فنحن نتغير عصبياً!
غالبا ما يكون الأطفال شغوفين بالأبطال النمطيين، من قبيل الأبطال الخارقين والأميرات. لماذا؟
الحاجة إلى البطل دليل على الهشاشة. فإن كنت واثقاً من نفسك، فأنت في غنى عن الأبطال، بل فقط في حاجة إلى اللعب مع شخص تقدّره. ذلك أن الفتاة الصغيرة التي تلعب دور أميرة، إنما هي تبحث عن صورة تعويضية. وهي لا تشعر بأنها أميرة، وتحس بالقلق نتيجة لذلك. وعندما يحلم صبي بأنه الإنسان الخارق/سوبرمان، فتلك إشارة إلى شعوره بأنه صغير، فهو في حاجة إلى أن يحلم بأنه في يوم ما سيصبح ضخماً وقوياً. وقد تم العثور على هذه الآلية لدى الكبار. فليس الأثرياء وحدهم من يتحمسون للعائلات الملكية، بل حتى عامة الناس. لقد التقيت في كثير من المرات بأشخاص فقراء جداً أنفقوا أموالاً طائلة في القمار: لقد منحوا لأنفسهم، من خلال هذه النفقات، الحلم بأن يربحوا يوماً ما الأموال التي هم في حاجة إليها. إنها آلية تعويضية، محترمة، لكنها تعبر عن شعور بالقلق. وقد لوحظ ذلك أيضاً على المستوى الجماعي. فالأدب في زمن الحرب يعج بجنرالات شجعان، وبجنود وسيمين يضحون بأنفسهم، وببسطاء الجند والعساكر، ويقترن أحياناً بفكاهة الضُّرَاط (1) التي تتماشى مع ذلك، بينما تضجرنا هذه الشخصيات، وتَنْفلِت منا تلك الدعابة في زمن السلم. ذلك أننا لم نعد في حاجة إليها.
هل نَعرِض أنفسنا بنفس الطريقة في الخيال بناءً على ما إذا كنا نقرأ كتاباً أو نشاهد فيلماً أو شريطاً من الرسوم المتحركة؟
لا، لأننا لا نفكر بنفس الطريقة. عندما أقرأ أو أكتب، أستخدم تجريدات: عصي ودوائر وحروف. هذه العلامات المجردة هي التي تثير عاطفة، واهتماماً، وتأملاً… فعندما أرى أميرة تمر بعربتها على شاشة التلفاز، فالصورة هي التي تستثير رد فعلي. فقد تكون العاطفة ممتعة في كلتا الحالتين، لكن أداة الإثارة مختلفة: فهناك من جهة اعتباطية العلامة، والصورة من جهة أخرى. الكتابة تعزز تفكيرا مجرداً، بينما تثير الصورة تفكيراً قياسياً. والحق أن التفكير بالصورة عتيق جداً؛ فهو الذي يسيطر على الفلاح الذي يكون أول من يرى أن الأرض تفتقر إلى الماء، أو لدى تاجر الخيول الذي يكون أول من يرى أن الحصان يَعْرَج… أقوم بهذا التمييز دون أي تنازل. ولكن في الوقت الذي تتطور فيه الصورة بسرعة فائقة، يجب أن ندرك أن هناك طريقتين لمعرفة العالم وفهمه، وربما أسلوبين وجوديين. تفتح اللغة المكتوبة المزيد من الاستكشاف، والحلم، واليوتوبيا.
يؤكد مجموعة من الفلاسفة بأن القراءة، وهي تزودنا بمجموعة كاملة من الميزات الإنسانية، تختبر قدرتنا على التعاطف؟ ما رأيك؟
الكتب لسان حال الآخرين. تسمح بولوج عوالم ذهنية أخرى، وتخدم بهذا بيداغوجية التعاطف. لنأخذ على سبيل المثال والداً مجروحاً، متأثراً بندوب صدمةٍ، فما يعيق تدفُّق مشاعره هو القدرة على سرد قصته. يمكننا أن نقول لابنه: «اقرأ هذا الكتاب، وسوف تفهم ما لا يجرؤ والدك على إخبارك به.» بيد أن التعاطف ينطوي أيضاً على جوانب مَرَضية، فهو لا يجعلك بالضرورة أكثر إنسانية. عندما كنت صغيراً، كنت مفتوناً بيوميات السفر التي تمجد الاستعمار. أوجدت هذه القراءة وميضاً في رأسي. لقد كنت متحمساً إزاء مفاخر المستكشفين العظام. ولم يصل تعاطفي إلى حد اهتدائي إلى حقيقة أننا كنا نذبح حضارات أخرى ونحن نفرض حضارتنا. ندرك اليوم أن التعاطف هو سيرورة تنموية متواصلة، يمكن أن تتوقف وسط الطريق. ومع تقدمي في السن، انتهى بي المطاف إلى التساؤل عما إذا كان من المشروع فرض تصورنا للحياة المجتمعية، وذلك بازدراء أخلاق الآخرين، ونهب ممتلكاتهم. يوميات السفر هي نفس النوع من القراءة التي تثير التعاطف المغرض: فهي لا تقدم سوى رؤية للعالم، غالباً ما يتم تلطيفها. يسعى المؤلفون، الذين يتوجهون إلى صديق مثالي، إلى إنشاء مجتمع من الناس يتبنى نفس طريقة تفكيرهم. ونجد هذا النوع من القصص البطولية المشجعة على التماهي والإعجاب في الأنظمة الشمولية.
للقراءة الاستشفائية قابلية التطور. ما رأيك في هذا التوظيف للأدب كعلاج نفسي؟
يمكن أن تكون للكتب وظيفة استشفائية، خصوصاً لدى الأطفال الذين يعانون من تأخر ذهني. إلا أنهم لا يستطيعون التصرف بمفردهم، بل يجب أن يكون الطفل برفقة شخص بالغ، وأن يسأله مثلاً: «هل ترغب في مطالعة هذا الكتاب من الرسوم المتحركة، هذه القصة…؟ وسنتحدث عن ذلك معاً…» لا يمكننا الحديث عن القراءة الاستشفائية إلا إذا كان الكتاب يشكل ذريعة للعلاقة مع الآخر ويقوم بتعزيزها. وعلى النقيض من ذلك يلجأ البعض، أطفالاً أو بالغين، إلى الكتب لتجنب العلاقة مع الآخرين. كما هو الشأن بالنسبة لجون جوني، مثال الصبي الممقوت والخائف الذي يختبئ خلف الكتب خلال فترات الاستراحة لتجنب الآخرين. كان يحب ازدراء الآخرين، والقراءة، بطريقة ما، أتاحت له هذه الفرصة. لا يمكننا بطبيعة الحال، أن نتحدث في هذه الحالة، عن العلاج والقراءة الاستشفائية، بل على العكس من ذلك، فالقراءة هنا تعرقل عملية التعلم الأساسية لكل شاب، أي: تعلم العيش مع الآخرين.
لقد اشتغلت كثيراً على مفهوم المرونة النفسية résilience. هل الكتاب أداة ممكنة لتحقيق ذلك؟
نعم، وبكل وضوح. يعرف الكِتاب كيف يقول بأناقة، وبطريقة مقنعة، ما لا أعرفه أو ما لا أجرؤ على قوله. إنه ممثل للذات، ومندوب نرجسي. إنه سَنَدِي، لكنه أيضاً صلة وصل مع الغير. عندما كنت طفلاً، اعتقدت أن مجرد كونك يهودياً يستوجب ذلك الحكمَ عليك بالموت. لم يكن الأمر فكرة سخيفة: لقد اختفى كل من حولي، وأدركت جيداً أنهم يريدون قتلي. كما سمعت أن القضاء على “الحشرات” اليهودية التي تزرع الوباء في العالم برمته، نظافة عرقية. وأنه إذا تمكنا من القضاء على اليهود، فسيعرف العالم ألف سنة من السعادة. كان ذلك هو الخطاب الوحيد الذي عرفته، ولذلك بدا لي عادلا. فعندما صدر كتاب آخر الصالحين (1959) Le Dernier des Justes لأندري شفارتز بارت، وكتاب شبابيك اللوفر (1960) Les Guichets du Louvre لروجي بوسينو، أو كيس من الكُلَل (1973) Un sac de billes لجوزيف جوفو، شعرت براحة قوية. فبفضل هذه الكتب أصبح اليهود مؤثرين، وعاطفيين، ومضحكين أو العكس. لقد كانوا عائلات، وشكلوا عالماً إنسانياً لم أكن أعرفه من قبل. لقد كانت هذه الكتب مفيدة لي حقاً. كما كنت شديد الحساسية تجاه الصياغة. إن ما يفضي إلى الشفاء ليس قراءة الكلمات أو لفظها، وإنما هو صياغة شكل شفوي، وصنعة الكتابة، وتنسيق الإيقاعات. فعندما يكون الكلام محكماً، فإنه يعطي شكلاً آخر للتجربة الحية.
هل تؤدي الكتابة نفس الوظيفة؟
نعم. فضلا عن ذلك، أقرأ أيضاً لأتعلم الكتابة بشكل أفضل. أرغب في التعبير عن نفسي بشكل دقيق، ودون تلعثم. سواء أ كان خيالاً أو دراسةً، قراءة أو كتابة، ذلك أن العالم على الورق هو كون من الابتكارات، وخلق لفظي. ذلك أن جراحنا تتحول بفضل وظيفة الكلمات والعزم على إنجاز جملة لأجل مشاركتها مع الآخرين. هذا هو ما يُشعر بالارتياح. أشعر وأنا بصدد نص جميل بمتعة جسدية. وأقول لنفسي: «ما أبدع هذا القول! كم أحب هذا العالم من الجمال، والشجاعة، والدقة، والكرم! هذا العالم المبتكر على الورق، هذا هو العالم الحقيقي، هذا هو العالم الذي يستحق أن يُعاش.» وبالمعنى الحرفي: يستحق الأمر «جهد» القراءة أو الكتابة، لأنك تشعر بعد ذلك بالرضا.
لدينا جميعا مكتبة داخلية بها بعض الكنوز التي تتحدث إلينا وتتحدث عنا أكثر من غيرها. ما هي الكتب المهمة في حياتك؟
أذكر رواية كيس من الكُلَل Un sac de billes التي شَفَتْني من سوء حظي لكوني ولدت يهودياً. وأوليفر تويست (1837) Oliver Twist، وهو يتيم مثلي، ومَرِنٌ للغاية. ورواية بدون عائلة (1878) Sans famille التي كانت في غاية الأهمية، حيث كان الطفل ريمي، بطل الرواية، لسان حالي وحامل أحلامي. فعلى الرغم من الهجر، والوحدة وسلسلة الكوارث التي كان يمر بها، فقد كان يجد دائماً وسيلة لتحويل سوء حظه إلى شعر، من خلال ابتكار مسرحيات مع الكلاب والقطط والقرود… لقد قرأت مغامراته بافتتان. كان هناك أيضاً جول فاليس –الطفل (1879) Jules Vallès – L’Enfant والمتمرد (1886) L’Insurgé – الذي أخبرني أنه يتوجب علي أن أكون ملتزماً اجتماعياً حتى أشارك في المغامرة البشرية. كما مررت بفترة أحببت فيها موباسان بشدة: فقد كان يحكي بشكل جيدٍعن العالم الكئيب الذي كنت أعيش فيه، مبرزاً أنه بإمكاننا أن نجعله يتطور. كان في قصصه بُعد شبه طبي، الذي كنت أحس به بالفعل. كان يقول لي موباسان، وهو يتّبع سيميائيات اجتماعية، أنه من خلال مراقبة الأعراض، يمكننا مجابهتها لجعلها تختفي. ما زال هناك الكثير مما يمكن ذكره، ولكل منها دور يؤدي في عالمي الذهني. ولكن هذه الكتب تحتل، بكل تأكيدٍ، مكاناً أثيراً في مكتبتي الداخلية.
—————————
هوامش:
1- فكاهة الضُّرَاط (L’humour pétomane): استمد هذا المركب من لقب الضَّارِط (Le pétomane) وهو ممثل أو شخص يشتغل في مجال الترفيه، وتتجلى سمته الرئيسية أو الوحيدة في قدرته على تحرير غازات البطن بطريقة إبداعية أو موسيقية أو مضحكة. انتشرت هذه الظاهرة في عديدٍ من ثقافات أوروبا وآسيا خلال فترات تاريخية مختلفة. بدءاً من القرون الوسطى وحتى التاريخ الحديث، حيث أنتج هؤلاء الضارطون إيقاعات أو نغمات مختلفة بغازات أمعائهم. وقد أشار القديس أغسطينوس في كتابه “دي سيفيتاتي داي” (De Civitate Dei ) (14.24) بأن بعض الأشخاص كانوا يتمتعون «بمثل هذه المقدرة على السيطرة على أمعائهم، وذلك بالضَرْط المتواصل والإرادي لإنتاج صدى أغنية».
كان الضارطون المحترفون (Braigetoír) في إيرلندا القرون الوسطى يزاولون هذا العمل رفقة موسيقيين آخرين. وبصفتهم كوميديين فقد كان هؤلاء الضارطون في أدنى السلّم الفني الـمُشكّل من شعراء النخبة، وشعراء الملاحم، وعازفي القيثارة. وقد ورد ذكر أحد هؤلاء الضارطين في أواخر القرون الوسطى في أحد مداخل “كتاب الرسوم” (القرن الثالث عشر) [كتاب لرامون دي كالديس]: وهو رولاند الضّارط محمي الملك هنري الثالث الذي منحه قصر همنجستون في مقاطعة سوفولك، في مقابل عرض سنوي يقدمه رولاند خلال عيد رأس السنة الميلادية، وفقاً لتقليدٍ يستحضره فرانسو رابليه أيضاً. عرفت اليابان بدورها، هذه الظاهرة خلال فترة إيدو (1600- 1868).
ومن أشهر ضارطي العصر الحديث جوزيف بيجول (Joseph Pujol) (1857- 1945). وهو فنان فرنسي مشهور بتحكمه المذهل في عضلات البطن التي تمكنه من إطلاق غازات أمعائه كيفما يشاء وفي إطار مجموعة متنوعة جداً من النّبرات. لقد كان بإمكان هذا الضارط المحترف أن يؤدي (بغازات أمعائه) أغنية “على ضوء القمر” صحبة عازِفٍ على مزمار. وقد كان بيجول الفنان الأعلى أجراً في زمنه، عندما كان يمارس موهبته في صالة العروض الأشهر في العالم: الطاحونة الحمراء (Le Moulin Rouge) (انطلاقا من 1890 إلى سنة 1894). وكان بإمكان مدخوله اليومي من هذه المؤسسة أن يصل إلى عشرين ألف فرنك فرنسي، أي أكثر من ضعف مدخول مجايلته سارة برنار (Sarah Bernhardt)، الممثلة الأكثر شهرة في تاريخ المسرح، وهي في أوج مجدها. ينظر: (Pétomane) و(Le pétomane) في موسوعة ويكيبيديا. (المترجم).