شكرا للأصدقاء في هيئة تحرير رباط الكتب، وفي المركز.
شكرا لأن الجلسة كانت اكتشافا بالنسبة لي، فقد كان من الصعب أن أتخلص من وضعية الكاتب الذي ما يزال مشدوداً لأجواء الكتابة، وعندما استمعت إلى قراءات بهذا التنوع وبهذا الذكاء في اختراق النص أحسست أن بإمكاني أن أنفصل عن النص، فلا يصبح نهاية الكتابة ولا نهاية السلالة. وبما أن القراءات كانت على هذا المستوى من التشعب فستفهمون أني لن أدخل في عملية الإجابة أو التوضيح. سأقول فقط بعض الأشياء التي ستساهم في الاقتراب من النص أو الابتعاد عنه. في الواقع كما قال أنور المرتجي، جنوب الروح هي الرحم
الأولى للقوس والفراشة، لكن ليس بينهما علاقات امتداد وتتابع، بل ربما علاقات تضاد وصراع في الشكل كما في المضمون. لقد انطلقت من رحم الرواية الأولى في نوع من التحايل لترويض الكتابة، لكن سرعان ما غامرت في تفاصيل لا علاقة لها برواية البحث عن الجذور. كان يهمني كثيرا في الفترة التي تفرغت فيها لكتابة الرواية، أن أقول بعض تأملاتي الخاصة من خلال الشخصيات ومن خلال الأحداث ومن خلال الأمكنة، وأن أقول تلك التأملات حتى التي تعبر عن نوع من الحيرة الصادقة. الحيرة التي نشترك فيها جميعا، حيرة في فهم الأشياء اليومية ولكن أيضا حيرة في علاقة مع القضايا الأصلية، قضايا الحب والموت والتبدلات والآثار والخراب ومقاومة الانهيار، وهي أشياء موجودة كتيمات إنسانية في حياتنا كلنا.
كان يهمني أن أتأمل هذه الأشياء، من الناحية الشعرية ومن الناحية الفلسفية مستعملا بعض المفاتيح كالسخرية والوصف والاستذكار وأشياء من هذا القبيل. في الأساس كان يهمني أن أقدم إشكالا بسيطا ومعقدا في آن واحد. هذا الإشكال هو كيف يمكن أن ينهض أحد ما أو مجتمع ما من الخراب أو من الانهيار. ووجدت أن أفضل صورة يمكن أن تمثل هول هذا الانهيار هو أن شخصا يساريا، كاتبا حديثا تربى بين الضفتين وله تعلق بثقافته لكنه منفتح على الآخرين، يكتشف في يوم ما اختفاء ابنه الوحيد الذي ذهب ليدرس في باريس في إحدى أهم المدارس العليا الهندسية، فإذا به يموت مقاتلا مع الطالبان، إنها فجيعة تخلخل كيان الراوي وتعطل حواسه بدءً بحاسة الشم، وتخرب علاقته الحسية بالعالم، وانطلاقاً من هذا الانهيار الشامل حاولت أن أرى كيف سيعيد هذا الشخص بناء نفسه. هل من الممكن أولا أن يعيد بناء نفسه؟. من هنا ينطلق بناء الرواية من خلال ما يعيشه الراوي هنا والآن من صداقات وعلاقات حب وانغمار في قضايا محيطه، ومن خلال تفكيك وإعادة تركيب فسيفساء الحياة التي تحيط به سواء حياة والده أو والدته أو أصدقائه. هذا العمل الضخم لإعادة بناء الحكايات المدعمة لوجودنا هي التي تجعل الراوي يسترجع القدرة على الحياة وأيضا يستعيد القدرة على الاستمتاع بتفاصيلها البسيطة. أنا أيضأ أميل إلى اعتبار هذه الرواية رواية عن الحب في أشكاله المتحققة والمحتملة، لذلك أفهم أن تستأثر الشخصيات النسائية في الرواية باهتمام مختلف القراءات،أود فقط أن أشير إلى أن علاقات الراوي بهذه الشخصيات هي علاقة بناء وهدم مستمرين، فليلى هي امرأة من الماضي ومن الحاضر، والمرأة التي يلاحقها ب”رسائل إلى حبيبتي” ليس لها اسم، ليست شخصية. ولكن في نفس الوقت، في لحظة ما، يلتقي في ناد رياضي بشاب يشبهه ويتخيل أنه من الممكن أن يكون ابنه من علاقة سابقة قبل 25 سنة. وفي لحظة يمكن أن يستسلم لفكرة انه عاش فعلا هذه العلاقة دون أن يتذكر فعلا هل الشخصية حقيقة أم لا. والراوي وهو يعيد بناء نفسه بهذه الطريقة يبني الرواية أيضا. الرواية تنبني على هذا التأرجح بين الحقيقي والمحتمل كما تنبني على تفاصيل الحياة التي نعيشها وقد لا نلتفت إليها، يردد الراوي كثيراً أن التفاصيل الصغيرة التي نمر بها ونحن مشغولون بما نعتبره أشياء كبيرة هي التي تشكل في نهاية المطاف جوهر حياتنا، كما يستحضر فكرة لأحد الفلاسفة تقول إنه عندما يولد الإنسان تكون أمامه ما لا نهاية له من الاحتمالات، وحين يموت لا يبقى أمامه إلا احتمال واحد هو ما عاشه فعلا. ليتساءل في النهاية، ما هي حياتنا؟ هل هي ما تحقق فعلا، أم ما لم يتحقق، أم ما تحقق وما لم يتحقق، أو ما كان فيها مجرد استيهامات وأحلام وأوهام؟ أنا أميل إلى انه إذا تركنا في حياتنا فقط ذلك الاحتمال الذي يؤشر عليه الموت، وهو الاحتمال الوحيد، فستكون حياتنا فقيرة جدا. الحياة الوحيدة الغنية هي التي نعددها بأحلامنا واستيهاماتنا وأوهامنا أيضا.
في ثقافتنا العربية هناك إلحاح على أن الأوهام أو الإفاقة من الأوهام، تراجيديا مدمرة، وأنا أحاول أن أبرر أن الفشل والوهم والإفاقة من الوهم من ضمن مسار الحياة. ومن الممكن أن نتصالح مع الفشل كمعطى عادي من معطيات الحياة اليومية. ونتصالح مع اليأس. بالمناسبة، أنا لا أعرف لماذا هذا الهجو الشنيع لليأس في ثقافتنا مع أن اليأس هو من الأشياء الأساسية في الخلق والإبداع؟ لا يوجد شيء جميل أنتجته الإنسانية لا يوجد فيه حد أدنى من اليأس، اليأس من الشكل، أو اليأس من المضمون، أو اليأس من الآخر أو اليأس من الذات. أظن أن هذه الأشياء أساسية. لقد استعملت كثيراً من العناصر التراجيدية في هذه الرواية لكن يجب أن لانغفل عنصر اللعب في الكتابة، وهو عنصر يسوغ تحوير الفجيعة بالسخرية والشعر والتأمل، ربما استفدت في هذه المسألة من وليلي، لأنني وأنا ابحث في فسيفسائها وجدت أن ارتباطها بالأسطورة الإغريقية كان لعبا لا غير، لأن أثرياء وليلي كان لهم نمط حياة لا علاقة له إطلاقا بالتراجيديا الإغريقية.
لقد حاولت انطلاقا من اليومي أن أبني الرواية بطريقة تهم مغرب اليوم.ليس من مهام الروائي التنبؤ أو تفسير التاريخ لكن مهمته الأساسية هي ان يقدم كتابة ممتعة لأنه إن فشل في هذا الأمر فلا قيمة لكل حقائق التاريخ التي يسردها. إذا استطاع كذلك ان يلعب على مفهوم الإيهام بحيث يجعل المتخيل حقيقيا والحقيقي متخيلا، فهذا يمكن ان يغني تلقينا للرواية. وأنا لا أخفي أنني لجأت إلى وثائق، سواء تعلق الأمر بالمدن ومشاريعها التعميرية أو بالأمكنة والمواقع التاريخية أو تعلق بالقضايا التي هيمنت على الصحافة كقضايا الفضائح العقارية وقضية عبدة الشيطان وزواج المثليين، لكن هذه الوقائع كانت مجرد تعلة لبناء عالم حكائي لا يهمه إعطاء معلومات أو التعبير عن موقف بقدر ما يهمه نسيج الكتابة نفسها. وأظن بأن هذا التأرجح بين الواقعي والمتخيل بين التوثيقي والمدسوس في الوثائق، هو الامتياز الذي يمكن أن يكون لنا ككتاب رواية لأنه يعفينا من تقديم الحقيقة التاريخية. أحيانا يسألني بعض القراء، هل هذه الحكاية أو تلك حقيقية؟ أجيب دائماً بأن الكذب ممكن فقط في الحياة وليس في الرواية .
في تعليقات صحفية كثيرة، انصب الاهتمام على الجانب السياسي في الرواية، أو على الجانب الذاتي، لا أنكر أن القضايا المتعلقة بتدبير الأمكنة، وببناء المؤسسات، وبالحرية الفردية هي قضايا تشغلني كثيراً، وقد بدا لي أن وجود ظلال منها في الرواية، سيمنحها ملامح تشبه العصر الذي نعيش فيه، من جهة أخرى وبغض النظر عن وجود بعد اوتوبيوغرافي في الرواية أو عدم وجوده، فإن أحدا لا يمكنه أن يكتب عملا دون أن يستعمل فيه تجربته ورؤيته، وبهذا المعنى فإن القوس والفراشة هي رواية الآخرين بتأملاتي الشخصية.