Horizons Maghrébins : le droit à la mémoire, « Manger au Maghreb », N°55, Presses universitaires du Mirail– Toulouse, France, 2006.
ظهر سنة 2006 العدد رقم 55 من مجلة آفاق مغاربية، التي تصدر عن منشورات جامعة تولوز بفرنسا، خُصص لملف الأطعمة والأشربة. ويسعى هذا العدد إلى تقديم مساهمات متنوعة حول تقاليد المائدة في المنطقة المغاربية، وفي الحوض المتوسط الغربي بشكل عام، من العصر الوسيط إلى الوقت الراهن. وشارك في هذا العدد ستة عشر باحثا من جامعات المغرب وتونس وفرنسا وبلجيكا يشتغلون في التاريخ وعلم الاجتماع والجغرافيا والأدب، أو في مجالات مهنية ذات صلة بالموضوع كالمطعمة والفندقة والسياحة. وبالإضافة إلى هذه المساهمات يضم هذا العدد مجموعة من الصور التي تعبر عن عادات الأكل والشرب، مأخوذة إما من المكتبة الوطنية بباريس أو من منتخبات خاصة، جمعها ورتبها في شكل ملف كل من محمد أوبهلي ومحمد الحبيب السمرقندي.
ويأتي هذا العدد لسد بعض الفراغ في مجال الاهتمام بتاريخ التغذية في بلاد المغارب، إذ أن البحث في هذا الميدان لازال جنينيا ولم يفرز بعد توجها حقيقيا تتقاطع فيه المستويات المادية والمستويات الثقافية، وتجذب إليه معارف كثيرة، كما هو الحال في الجامعات الأوربية. ففي فرنسا مثلا، منذ بداية الثمانينيات، مع أبحاث المؤرخ الفرنسي جان لوي فلاندران حول الغاسترونيميا التاريخية التي جعل منها مادة علمية قائمة الذات بجامعة باريس8، تعددت الدراسات والندوات والملفات الخاصة بمختلف الدوريات حول تاريخ التغذية، وانخرط التاريخ في نقاش خصب حول إشكالية الغذاء ومظاهره ودلالاته وسلوكياته، إلى جانب العلوم الاجتماعية الأخرى.
واستجابة لهذه الحاجة المعرفية اجتهدت المساهمات المعروضة بهذا العدد في استكشاف بعض المظاهر التاريخية والاجتماعية والثقافية للعادات الغذائية في بلاد المغارب. ولتقريب القارئ من هذه المساهمات، يمكن تناولها من خلال ثلاثة موضوعات رئيسية. الأول يهم ظاهرة التبادلات والانتقالات الثقافية. نذكر في هذا الصدد المقال الذي خصصه محمد أوبهلي للدور الذي لعبه أهل المغارب والأندلس خلال العصر الوسيط في انتقال العجائن وأذواقها إلى أوربا اللاتينية. وفي نفس السياق ركزت ليليان بلوفيي على المربيات العربية وانتقالها من الأندلس إلى أوربا، و أبانت كيف ارتبطت السكريات في العصر الوسيط بالوصفات الطبية، وكيف ألف حولها العلماء العرب والمسلمون كأبي القاسم الزهراوي كتبا كثيرة انتقلت مضامينها إلى أوربا بواسطة الترجمات التي سهرت عليها مدن قرطبة بإسبانيا وساليرني بإيطاليا.
ويهتم الموضوع الثاني بظاهرة الممنوعات، أي الأطعمة والأشربة التي تمنعها الشريعة الإسلامية والتي يستهلكها الناس بالرغم من ذلك بشكل خفي أحيانا، وعلني أحيانا أخرى. ففي مقال تحت عنوان الأطباق الكلبية تطرقت فيرجيني بريفوست لعادة أكل الكلاب في منطقتي الجريد وسجلماسة خلال العصر الوسيط. فقد كان الناس يسمنون الكلاب بواسطة التمر ويأكلونها كما يأكلون لحم الغنم بالرغم من الأحاديث النبوية التي تدعو إلى اجتناب استهلاك الحيوانات ذات الأنياب.
وفي موضوع الخمر تناول محمد حبيدة استهلاك المشروبات الكحولية في المغرب قبل الاستعمار، من منظور الاختلاف الحاصل في مواقف أهل الشرع من هذا المشروب، من محرم قطعا ومتسامح، وانتشار استهلاكه قبيل الحماية بفعل اتساع العلاقات التجارية مع الخارج وتزايد الاحتكاك بالأجانب.
أما الموضوع الثالث فيتصل بالموروث الغذائي في المغرب من زاوية العلاقة بين السياحة والمطعمة. وتعبر مساهمة إدريس بومكَوتي عن هذا التوجه الجديد الذي يرغب في خلق دينامية سياحية يحتل فيها التراث المطعمي مكانة كبيرة، إذ من شأن هذا التوجه أن يحافظ على الموروث الغذائي المتميز بغلبة الحبوب والقطاني والخضر والفواكه وزيوت الزيتون والأركَان، ونقله من مجال الفولكلور إلى مجال الفندقة المهنية، خاصة في ظل الإقبال المتزايد على المنتجات البيولوجية من طرف الأوربيين الذين يتوافدون على البلاد بالملايين سنويا.
ويُعَرِّف بيرنار فليز، المختص في الفندقة المغربية والفرنسية، هذا التراث، في حوار منشور بهذا العدد، بكونه مجموع الأطباق التقليدية الموروثة عن مؤثرات ثقافية متنوعة، محلية ومتوسطية وشرقية وإفريقية. وبخصوص هذا التوجه الجديد يمكن ذكر تجربة جامعة فرانسوا رابلي بمدينة تور في فرنسا التي يشتغل بها منذ مدة، بتعاون مع المعهد الأوربي لتاريخ التغذية، ماستر “تاريخ وثقافات التغذية” الذي يضع من بين أهدافه، إلى جانب المقاربة العلمية، تكوين الطلبة في مجال الذِّواقة والفندقة والسياحة وتجارة المواد الغذائية.
لقد فتحت مجلة آفاق مغاربية النقاش في موضوع أصبح يثير في المدة الأخيرة اهتمام علوم اجتماعية كثيرة، من التاريخ إلى الجغرافيا مرورا بعلم الاجتماع والاقتصاد، وقطاعات عديدة، اقتصادية وإعلامية، مثل صناعات تحويل منتجات الفلاحة، وبرامج الطبخ التي تعج بها وسائل الإعلام المرئية، والفندقة وغيرها.
فكل هذه العلوم والقطاعات تسعى إلى استكشاف مظاهر الطعام والشراب، وعادات الطبخ والمائدة، وسلوكيات الناس اتجاه هذه المظاهر والعادات، كما تسعى إلى إبراز مؤهلات الموروث الغذائي واستثماره في المشاريع السياحية.
ويحتل التاريخ من بين هذه العلوم والقطاعات مكانة بالغة الأهمية، إذ يقدم إسهاما نوعيا في الموضوع. وتظهر أهمية التناول التاريخي للموروث الغذائي بالقياس إلى التطور الهائل الذي تعرفه التغذية في الوقت الراهن كمَّا ونوعا، وما تتسبب فيه مظاهر التطور هذه، مع كثرة الذهون والسكريات وانتشار محلات الأكل السريع، من مشاكل لصحة البشر. ولذلك ينتبه الباحثون، بمختلف تخصصاتهم، إلى الأطعمة النباتية ودورها في الوقاية من العديد من الأمراض، والتي شكلت من الوجهة التاريخية القوت اليومي الأساسي لمعظم المجتمعات قبل الانتقال إلى بنيات التصنيع والاستهلاك.
بالفعل ان موضوع التغذية يعتبر من اهم النوافذ التي تمكن الباحثين المتخصصين في التاريخ الاجتماعي من جراسة المجتمعات ومعرفة ذهنياتهم من خلال هذا الموضوع.