نبيل المحيش، عاصفة على الشرق، دار النابغة للنشر والتوزيع، طنطا، 2018.
تنتمي رواية “عاصفة على الشرق” للكاتب السعودي نبيل المحيش إلى تيار الرواية العربية المعاصرة التي تهتم بالقضايا السياسية والاجتماعية، والتي يوظف الروائي كل أبعادها للتعبير عن هموم المجتمع وقضاياه السياسية والاجتماعية، ويمكن أن نشير إلى أنها تناقش تجاذبات الهوية العربية بين أصالة الأنا وحداثة الآخر، محاولة الانتصار للذات التي تسعى للتخلص من هيمنة الآخر (أمريكا والغرب) الذي زعزع كيانها الاجتماعي والفكري والسياسي في محاولة منه للاستيلاء على خيراتها.
تهتم رواية “عاصفة على الشرق” بالواقع السياسي العالمي، وتحديدًا بما يحدث في الشرق الأوسط من حروب وصراعات وعلاقتها بأمريكا والغرب منذ بداية القرن 21، من خلال شخصيتين رئيسيتين وهما: وليام كنيدي وشيرين بهلوي اللذين تحركهما المخابرات الأمريكية في خفاء، بحثا عن رأسين نوويين مفقودين بمنطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى بعض الشخصيات العابرة في الرواية والتي يكشف من خلالها المؤلف عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في المنطقة التي تزخر بالنفط، ممّا يجعلها عرضة للمؤامرات من طرف أمريكا والغرب من أجل اقتسام خيراتها والسيطرة عليها مع الحفاظ على أمن وسلامة إسرائيل تحت مظلة الحفاظ على الأمن العالمي.
توالت أحداث الرواية بأسلوب سهل يكاد يكون مباشرًا نظرًا لواقعية الأحداث وراهنيتها، وتضمّنت عنصر التشويق الذي يجعل القارئ يتطلع إلى معرفة مآل الأحداث وكيف ستنتهي الصراعات وبأية أساليب وخسائر.
تطرح الرواية قضية المثقف والراهن وكيف يستطيع هذا المثقف أن يتنبأ بوقوع أحداث معينة بناءً على معطيات يستمدّها من نظرته للواقع والحياة والأشياء، ويتبلور ذلك من خلال موضوع الرواية الذي يدور حول الصراع الدائر بين أمريكا وإيران حول امتلاك الأسلحة النووية، مما يتسبّب في قيام حرب بين الدولتين، إذ تبدأ أحداث الرواية بإعلان الرئيس الإيراني عن امتلاك بلده السلاح النووي ونجاحه في تفجير قنبلة نووية، ودعوته لأمريكا وإسرائيل والدول الغربية أن تتعامل مع إيران على هذا الأساس. إثر ذلك، سارعت أمريكا إلى الإعلان عن كون إيران أصبحت تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي لأمريكا ولحلفائها في المنطقة وفي العالم، وقامت بإرسال مجموعة من عملائها إلى الأراضي الإيرانية برئاسة الرائد وليام كنيدي، الذي عمل في العراق لمدّة سنتين بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، وشارك في عدد من العمليات التي أكسبته الخبرة والمهارة، وأسهمت في معرفته بالأوضاع السياسية والجغرافية والدينية في المنطقة، وبمساعدة الأمريكية من أصل إيراني شيرين بهلوي التي اختيرت لهذه المهمة لمعرفتها بالأراضي الإيرانية واللغة الفارسية ولصداقاتها الكثيرة في إيران، وهذا دليل على أن أمريكا تخطّط لنخر إيران من الداخل ولزرع الألغام في تربتها والفتنة بين أهاليها كي لا تسمح لها بالهيمنة على الخليج العربي الذي يضمّ أكثر من 80 % من احتياطي النفط العالمي، ولكي تحافظ على أمن إسرائيل، وهو مسعى الفكر السياسي الغربي والأمريكي الذي يهدف إلى اقتسام كعكة منطقة الخليج باستعمال كل الوسائل.
في هذا الإطار، أطلق عملاء المخابرات الأمريكية صواريخ إيرانية الصنع على سفن البحرية الأمريكية في البحرين ونسبوا الهجوم إلى إيران لإذكاء نار الحرب ولتبرير تدخل أمريكا في شؤون الخليج كما فعلت لتبرير هجومها على أفغانستان بتدبير أحداث 11 شتنبر 2001، وتلفيق أسلحة الدمار الشامل للعراق لتعليل غزوها سنة 2003 وإسقاط نظام صدام حسين. وبطبيعة الحال نفت إيران هذا الاتهام، لكن أمريكا أعلنت عن استعدادها للردّ بقصف مدينتين إيرانيتين صغيرتين برأسين نوويين، وأضاف الرئيس الأمريكي أن بلاده ستقوم بقصف نووي لثلاث مدن إيرانية بما فيها العاصمة طهران إن لم تتخلى إيران عن أسلحتها النووية، وتسمح للمراقبين الدوليين بدخول المواقع النووية الإيرانية، وتفكيك البرنامج النووي وتسليم مخزونها من القنابل النووية.
عمّ الاضطراب داخل البلاد، وخضع الرئيس الإيراني للشروط الأمريكية بعدما لم يتمكن من الحصول على مساعدة من روسيا أو الصين، وبعدما تأكد أن الفتيل الذي أشعلته أمريكا سيحرق الأخضر واليابس في المنطقة. وهنا يوضّح الكاتب كيف تقوم التوازنات والتنازلات أثناء الحروب، وكيف يخدع بلد ما مواطنيه والعالم أجمع من أجل كسب الحرب. أليست الحرب خدعة كما يقال؟
بدأت فرقة التفتيش ونزع الأسلحة النووية عملها برئاسة وليام كنيدي وشرين بهلوي اللذين تجمع بينهما مشاعر إنسانية يستحضر من خلالها الكاتب مقطعا من قصيدة “أنشودة المطر” شعر بدر شاكر السياب، وأغنية فيروز “رجعت الشتوية”، وأغاني عاطفية لآخرين، إضافة إلى أقوال برنارد شو وسقراط وغيرهم، فيكشف عن الجانب الأدبي الذي ينسج خيوط التاريخ السياسي الواقعي في الرواية، هذا التاريخ الذي تسعى أمريكا إلى تلويثه بالدم وزرع الفتن بين مكوّنات المجتمعات العربية من سنة وشيعية وأقليات أخرى مختلفة تستطيع استغلالها لأجل تحقيق مصالحها، وقد تعدّ العميلة شيرين رمزًا للتواطؤ على خيانة الأصل والاندماج في بيئة مختلفة من أجل تحقيق مآرب خاصّة. ومن خلال شخصية شيرين وظف المؤلف مقومات الكتابة السردية الاسترجاعية فاسترجع أحداث الحرب بين العراق وإيران، وناقش أسبابها ومخلفاتها الاقتصادية والسياسية على البلدين وعلى العالم أجمع ورهن الأمن العالمي بعقلية البشر. كما رهن أمن إسرائيل بتدمير كل القنابل النووية الإيرانية التي أكدت شيرين أنها أشرفت على التخلّص منها، لكن البحث أظهر اختفاء رأسين نوويين تم تهريبهما من طرف الحرس الثوري الإيراني إلى مكان مجهول، فاستعملت المخابرات الأمريكية أقمار التجسّس للعثور عليهما، وجنّدت وليام وشيرين لمتابعة عملية التهريب، فانطلقت رحلتهم من إيران وانتهت بقبرص مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان ثم مصر وتركيا وإيطاليا، ليتمّ الوصول إلى رأس نووي واحد ببيروت، ويكتشف تهريب الأخر إلى سفينة بالبحر الأبيض المتوسط، قرب جزيرة قبرص، لتتناسل الأخبار المتضاربة عن مآل هذا الرأس النووي عبر وسائل الإعلام التي تلعب دورًا خطيرًا في تضليل أو تنوير الرأي العام، ممّا يسبّب الهلع في تل أبيب والمناطق المجاورة.
وداخل متاهات البحث عن هذا الرأس النووي، تنهض إيقاعات الحرب لتمارس سلطتها المطلقة على فعل التخييل لدى المؤلف ولتتحول آلياتها وعواقبها إلى محكيات سردية تمتح من واقع منطقة الشرق الأوسط، وما لحق بها في السنوات الأخيرة من اعتداءات أمريكية تتمثل في قصف أمريكا لجنوب لبنان بالتزامن مع عمليات إنزال جوية وبحرية وبرية في بيروت والجنوب اللبناني. وفيما لحق بالعراق من دمار شامل وجرائم ارتكبت في حق العراقيين خلال حربي الخليج الأولى والثانية، سواء من طرف النظام أو من طرف أمريكا وحلفائها الذين سعوا للقضاء على ماضي العراق المجيد والزج به في مستنقع الصراعات الدينية والعرقية. تطرق الكاتب أيضًا إلى الوضع الصعب في سوريا التي تشتعل فيها ثورة شعبية منذ سنة 2011، ما فتئت أن تحوّلت إلى ثورة مسلّحة، على إثر الاعتداءات التي قام بها النظام السوري ضدّ مواطنيه. تحدث أيضًا عن معاناة الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت وطأة الاستغلال الصهيوني وكيف أن العرب لم يتمكنوا من توحيد كلمتهم لمواجهة عدوّ مشترك هو إسرائيل، وهنا أيضًا يمكن الإشارة إلى تضارب المصالح الخاصة للدول على حساب المصلحة العامة التي تخصّ تحرير فلسطين والعمل على توقيف عملية الاستيطان المستمرّة منذ خمسينيات القرن الماضي في مخالفة صريحة لقرارات الأمم المتحدة، كما يمكن استنتاج حجم الفساد والخروقات التي يرتكبها بعض المسؤولين مقابل المال في سوريا ولبنان والعراق، مثل السماح بتهريب الأسلحة والبشر وكل ما من شأنه أن يخالف القوانين المعمول بها داخل بلدان الشرق الأوسط. كما يبيّن الكاتب أطماع إيران وروسيا في الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط بمساندة أمريكا، حيث إن الرئيس الروسي يحذر الغرب من أي تدخل مباشر في المنطقة لأن ذلك يهدّد مصالح بلاده الحيوية هناك.
يبدو أن المستفيد الأكبر من هذه الحروب والخلافات والصراعات هو أمريكا والغرب وروسيا وإسرائيل، فاقتصادها يزدهر ومبيعات أسلحتها تتضاعف وأموال العرب وإيران تتحوّل إلى جيوبهم.
إنها الخلاصة التي أنهى بها الكاتب روايته حيث تفاجأ العالم، بعد القاء القبض على عملاء من حزب الله اللبناني اعترفوا بأوصاف السفينة التي تهرب الرأس النووي المفقود، بإعلان السياسيين الأمريكان والروس عن تنفيذ اتفاقية “كيري-لافروف” التي تنصّ على تقاسم النفوذ والوصاية على الشرق الأوسط بين الولايات المتحدة وروسيا، وتقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، وإعادة رسم خرائط الدول بالمنطقة، واقتطاع جزء كبير من جنوب وشرق تركيا وضمّه إلى الدولة الكردية، واقتطاع القسم الأوربي وما يقابله وضمّه إلى روسيا. فلماذا لا تتجاوز إيران والسعودية ودول الخليج العربية هذه المآزق وتوقف الحروب الطائفية والعرقية لتفسد خطة الاستعمار الجديدة للشرق الأوسط، وتضمن السلام والأمن والأمان لمواطنيها؟ ولماذا لا تنتبه هذه الدول إلى أن أمريكا غلطة كبيرة جدا على رأي فرويد؟ إن التاريخ يكتبه الأحياء فقط، ولا شك أن العرب الآن شبه أموات على حد تعبير المؤلف.
يكشف الكاتب من خلال هذه الرواية رؤيته للحروب الدائرة في البلدان العربية ودور أمريكا في إذكائها مستغلة الفقر والجهل والأحقاد التاريخية والصراعات العرقية والخلافات العقائدية من أجل تأجيج الحروب الطائفية لسنوات عديدة تقضي من خلالها على كلّ تقارب ممكن بين هذه الدول، ممّا يسهّل عليها استغلال ثرواتها وتخريب عقول شبابها وإلهائهم عن كل ما يفيد حاضرهم ومستقبلهم من علم ومعرفة وفكر قد يدفع بعجلة تطوّرهم إلى الأمام.
وللحد من تأثير أمريكا السلبي والمدمر تحمل الرواية رسالة إنسانية نبيلة تدعو إلى نبذ العنف والتعصّب في مقابل التحلي بالتسامح وتعزيز القيم الإنسانية واحترام الآخر المختلف والمتنوع والقبول به، بغض النظر عن ديانته أو جنسيته أو عقيدته أو لونه بهدف ضمان عيش مشترك تحترم فيه حقوق الإنسان وحرياته، باعتبار ذلك هو الحل الأمثل والمثالي لتحقيق الأمن والأمان والطمأنينة والمحبة والسلام للإنسانية جمعاء، وإلا فإن العالم سيكون على أبواب حرب عالمية ثالثة تكون فيها المنطقة العربية ضحية صراعات طائفية وعرقية مسلحة لا حد لخسائرها ولا منتهى لدمارها.
لقد استطاع المؤلف تقديم نص قادر على استقراء المستقبل والتنبؤ بوقائعه في ظل سياقات أحداث متتالية واقعية وتخييلية، وطرح مجموعة من الحلول التي تقود المنطقة إلى بر الأمان لأن التاريخ يشهد على أنه في الحرب لا يجني المتحاربون غير الخسارة.
لم تكتف الرواية بالجانبين السياسي والاقتصادي بل حفلت بمجموعة من الأحداث التاريخية الدقيقة والحقائق الكثيرة حول المنطقة، فاهتمت بالتاريخ والآثار والسياحة من خلال حوارات جانبية لشخصيات عابرة بالرواية استطاعت أن تلفت انتباه القارئ إلى معاناة المواطن العربي داخل بلده، وإلى تعطش الآخر الأجنبي إلى الاطلاع على الثقافة العربية من خلال زيارة البطلين وليام وشيرين لمعالم البلدان التي زاراها كأهرام مصر ومتاحفها ومآثرها المتنوعة، والتي وصفها المؤلف بدقة متناهية تدل على اكتسابه لتراكم معرفي جعله ينجح في رسم معالم أدب الرحلات في نص روائي يشتغل على تفاصيل وحيثيات الحروب، ولا يستثني الجانب الإنساني الذي ينفلت من بين الأحداث ويظهر من خلال سعي شخصيات الرواية بمن فيهم البطلين إلى أن تكون حياتهم طبيعية مليئة بالمشاعر الجميلة.
إن رواية “عاصفة على الشرق” تعبّر عن القهر السياسي والتعذيب المادي والمعنوي الذي تعاني منه شعوب منطقة الشرق الأوسط في ظل الحروب منذ بداية الألفية الثالثة، وتوضّح الارتباط الوثيق بين الأدب والسياسة، على أساس أن الأدب هو المتنفّس الوحيد للنقد الاجتماعي والسياسي، وخصوصًا في الدول ذات الأنظمة التي لا تسمح بالنقد المباشر، حيث يظل الأدب أداة من أدوات التغيير السياسي والاجتماعي، ويعبّر عن روح البلد وأزماته وطموحاته إلى غد أفضل. ويظل الروائي بمثابة مؤرخ حقيقي لكثير من أحداث الأمة وقضاياها، فهو المرآة العاكسة للمجتمع.