محمد الأشعري،القوس والفراشة، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 2010.
تخلو الكتابات الأكاديمية عن السياسة في المغرب (بل ولعل هذه الحالة منتشرة في دول أخرى أيضا) من إحالات على الروايات. هذا في الوقت الذي كثيرا ما تتخذ الروايات من السياسة موضوعا أساسيا لها: عنف الدولة، الثورات، الفساد، الانتخابات المزورة، الحرب، الأصولية الدينية، التسلط، اللا-تسيس. النماذج يمكن أن تشمل لائحة طويلة من العناوين، أذكر منها على حساب الإشارة فحسب خريف البطريك لكارسيا مراكيز،1984 لجورج أورويل، الطبل الصفيح لغونثر غراس، خفة الكائن التي لا تحتمللميلان كونديرا، الثلج لأورهان باموق، تصحيحات لجوناثان فرانزن، أو على المستوى العربي عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، المخطوطة الشرقية لواسيني الأعرج، وحيوات متجاورة لمحمد برادة. كما أن الأحداث السياسية تشكل المسرح الذي تعيش وتتحرك فيه الشخصيات المتخيَّلة لروايات عديدة والتي تقدم لنا رؤى جديدة عن هذه الأحداث، وقراءة لها بشكل يضيء فيه الخيال المبدع جوانب تتجاوز ما توفره المعطيات المُوثَّقة.
أفسر أن غياب الرواية كمرجع في الكتابات السياسية يعبر عن موقف منهجي من الخيال كمصدر للمعرفة باعتبار أن الخيال متناقض مع أحد الشروط الرئيسية للتفكير العلمي وهو التوثيق عن طريق معطيات مادية أو عن طريق مراجع معترف بها في حقل العلوم، بما فيها العلوم الاجتماعية التي تعد العلوم السياسية أحد فروعها، وهذه المعطيات والمراجع لا تشمل طبعا الإبداعات الأدبية. أفسرها أيضا بحرص العلوم الاجتماعية على ضبط الحدود التي تميزها عن بعضها البعض وعن الميادين المعرفية الأخرى، وإصرارها على فرض احترام هذه الحدود على طلابها بسبب شروط التخصص والاعتراف بقيمة الشهادات والإنتاجات العلمية وما يترتب عن ذلك من فرص التوظيف والترقية على المستوى الإداري. لا بد من إعادة النظر في هذا الموقف. إذ أن العلوم الاجتماعية تكتشف في فترات الأزمات الكبرى عجزها عن ضبط فهم الواقع، وعن توقع التحولات التي يعرفها العالم، بالرغم من تراثها النظري والمنهجي المبهِر الذي تراكم عبر القرون. وإذا ما اقتصرنا على النصف الثاني للقرن العشرين فحسب، فإن الإحساس بالعجز عن فهم ما يحدث، بل والاعتراف بهذا العجز، تكرر مرارا في هزيمة أمريكا في الفيتنام، والثورة الإيرانية، وسقوط الاتحاد السوفياتي، و11 شتنبر 2001 وما تبعها من حروب، والأزمات المالية والربيع العربي وغيرها. إن هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة منهجية تقييمية معمقة من طرف المشتغلين في مجال العلوم الاجتماعية، ويدعو إلى الانفتاح على مقاربات أخرى لفهم العالم.
بتقديمها لرواية القوس والفراشة لمحمد لأشعري، تسعى هذه الورقة إلى أن تحاور نصا أدبيا مغربيا متميزا صدر أخيرا، وتبحث في إمكانيات توظيف ما يطرحه من قضايا كمداخل جديدة لمقاربة إشكالات تهم العلوم السياسية مثل اللا-تسيس، الإرهاب، الهويات ما بعد-الحداثية، التمدين والفساد.
ماذا تقول القوس والفراشة بشأن هذه القضايا؟
لأبدأ بعرض موجز لأحداث الرواية.
ذات يوم، “أتصور أنه في منتصف العشرية الأولى لهذا لقرن” يتلقى يوسف، وهو صحفي في الخمسينات من عمره، يساري سابق، رسالة بسطر واحد تخبره بأن ابنه الوحيد ياسين، والذي كان يدرُس بإحدى المدارس الهندسية الفرنسية، مات، ولما يبلغ العشرين من عمره، من جراء عملية انتحارية ارتكبها هو بعد أن التحق بصفوف الطالبان في أفغانستان. أحدث الخبر صدمة هائلة في نفس يوسف، و قلبت علاقاته مع الناس بما فيهم زوجته بهية، رأسا على عقب، بل وبلغت قوتها ما أفقده حاسة الشم. كان موت ياسين الانتحاري مدخل الحكاية لكي نتابع أباه يوسف وهو يعيد النظر في حياته، ويواجه آلام مخلفات موت ابنه، ويبحث عن مخارج من حيرته المدمِّرة في فهم ما جرى.
لم تكن حياة يوسف قبل موت ابنه هانئة. إذ أنه كان يعيش حالة الضياع والشعور بالإحباط جراء تداعي طموحات أفكاره اليسارية في عالم أصبحت تسوده الأنانية، والجشع، وحب المال، والفساد. كان يوسف يعيش على حافة اليأس، ولكن موت ابنه دفعه إلى أن يحس بمسؤوليته تجاه ما حدث، وأصبح السؤال الذي يؤرقه هو معرفة الدواعي التي جعلت ابنه يفجر نفسه، أن يكتشف سبب الإرهاب الذي نبث في عقر أسرته. قبل ذلك، وفي عملية إرهابية مشابهة، تلك التي كانت حدثت في الدار البيضاء في ماي 2003، كان يوسف نشر مقالا بعنوان “الإرهاب كما لا أفهمه،” عبر فيه عن عجزه في أن يعطي للإرهاب معنى، وأن يكون هذا الفعل يعبر عن شيء ما. لكن يوسف يتساءل هذه المرة كأب لإرهابي، يتكلم بصوت جيل بكامله معترفا بمسؤوليته في ما وقع قائلا: “كيف استطعنا أن نلد هذه الكائنات؟”
كانت مقدمة الرواية تهيئنا لتغوص في نفسية الإرهابي، لتعيد بناء عالمه الباطني، والذي لا يمكن أن ينفذ إليه في أدق تفاصيل حميميته إلا خيال المبدع، كما كان فعل من قبل جون أبدايك في رواية إرهابي، John Updike, Terrorist, 2006 ، أو ياسمينا خضرة في رواية العملية ،Yasmina Khadra, L’Attentat, 2005. لكن القوس والفراشة تأخذ منحى مغايرا، وعوض أن تعرض شخصية ياسين الإرهابي، تركز على الأب، يوسف، لدرجة يتحول فيها الإرهاب إلى موضوع مضلل. ليس الإرهاب كفعل، أو كفكر، ولا كفاعل، هو الموضوع الرئيسي للرواية، بل لم يكن إلا مبررا لولوج عالم يوسف وقبله عالم والده محمد (جد ياسين) ومشاريعه الفاشلة هو الآخر. ثلاثة شخصيات، تعكس ثلاثة أجيال ترافق حيواتها مسارات تاريخ المغرب المعاصر، وتشهد الواحدة تلو الأخرى ميلاد مشاريع طموحة تنتهي كلها بمأساة.
يبرز يوسف كشخصية مركزية في الرواية. يمثل بامتياز الجيل الأول لما بعد الاستقلال، وقضايا الطبقة الوسطى الحضرية في مغرب التمدين الكاسح، وصراعات اليسار ومواجهاته مع الدولة، أو ما بين فصائلها التقليدية والراديكالية، والحيرة التي ترافق تلاشي اليسار، بعد أن باع يساريون ماضيهم من أجل المصالحة، أو انتقلوا إلى المضاربات التجارية، أو اعتنقوا الدفاع عن قضايا بعد- يسارية (المثلية، وعبدة الشيطان). يعاين يوسف هذه التحولات، ويعايشها من خلال صداقاته: أحمد مجد المضارب العقاري، ابراهيم الخياطي المحامي المثلي، علاقاته النسائية مع زوجته حتى بعد أن أصبحت طليقته، ومع كل من فاطمة وليلى.
وسط يوسف الذي يبدو غريبا بجدة قضاياه، والقاتم لأنه يعد بأي شيء، ولا تلطِّف من كآبته إلا ملذات الجنس، أو الأكل الذي خصصت له الرواية صفحات نادرة في الكتابات العربية في دقة وصفها لتفاصيل تذوِّق الأطباق، يفجِّر ياسين نفسه. وتتابع الرواية الآثار التي تخلفها هذه الفاجعة على حياة يوسف، وتفكيره، ونظرته لماضيه وللمستقبل.
تولد الحادثة لدى يوسف الشعور بالذنب، ويقول معترفا بجزء من مسؤوليته فيما وقع: “ياسين أخذ عني بذرة التمرد، ودفع ثمن اندماجي وتخاذلي بالوكالة.” إذا كان يوسف كفرد، ولكن أيضا كجيل، قد تمرد وتخاذل فاندمج، فإن ياسين لا يتخاذل، يذهب بتمرده إلى أقصى مستوى، مستوى الانتحار الإرهابي. إلا أن يوسف يقدم هذا التفسير لسلوك ابنه بدون عناء يُذكر من طرفه. فهو لم يسعَ، وهو الصحفي النصف الأوربي (من أمه الألمانية، التي يكاد لا يَذكُرها ابنها يوسف، وهذا موضوع حُشر في الرواية بشكل غير مقنع بالرغم من الأسلوب الشيق والممتع للصفحات التي كتبت حوله) أن يبذل أي مجهود لكي يراجع حياة ابنه، أن يزور الأماكن التي عاش فيها، والمدارس التي التحق بها، ويبحث عن أصدقائه أو عن ما خلفه من رسائل أو آثار موثقة. لم يفعل يوسف أيا من ذلك. ويتكرر نفس الموقف الرافض للابن، بل المتحجر إزاءه، في تلك الرؤى المتخيلة التي يظهر فيها طيف ياسين، يخاطب أباه ويحاوره، ولكن الأب لا يسأل، لا يبدي الفضول الكافي لاكتشاف ابنه. يضعنا كل هذا أمام علاقة متوترة لأب بابنه، وموقف نهائي يحكم به الأب على مسار حياة ابنه، وهو موقف يعكس أبوية تقليدية، بالرغم من الأفكار الحداثية التي يتبناها يوسف بل ويمارسها في تعاطفه مع المثليين ومع عبدة الشيطان، وفي علاقاته النسائية المتحررة من الذكورية التقليدية. على العكس من ذلك، تظل فكرته عن ابنه بالغة التقليدية، ورد فعله تجاه نهايته التراجيدية يحكمه موقف إيديولوجي عدائي مسبق من الأصولية الدينية لم تليِّنه فاجعته العائلية. بل يصل به الأمر، وهو يكرر مرارا أن الإرهاب، فعل ابنه، لا يمكن أن يكون له معنى، لا يعبِّر عن أن شيء، أنه يودُّ لو قتل ابنه هو بنفسه. وبهذا الموقف الشديد القسوة من ابنه، يحرمنا يوسف، وبالتالي الرواية، من ولوج حميمية عالم الإرهابي، الذي يظل عصيا على الاختراق، حتى والرواية تقربنا منه أكثر من أي نص غير متخيَّل.
ولذلك، فإني اعتبرت موضوع الإرهاب مدخلا مضللا للرواية. لم يشكل الإرهاب، العملية الانتحارية التي نفذها ياسين إلا القطرة التي أفاضت كأس الإحساس بخيبة يوسف، الأب، من الحياة، من علاقة زوجية افتقدت إلى الحب، من مجتمع يتفكك بسبب الهيمنة الساحقة لرأس المال وللمضاربات غير المشروعة، وبسبب التنمية الحضرية التي تفتقد إلى الجمال والروح والخيال. بل هي آلة تدك الأرض دكا على ضفتي الرباط، وفي مراكش حيث تنمو عمارات بشعة تتسابق في إخفاء أفق جبال الأطلس. يحدث كل ذلك ويوسف عاجز عن فعل شيء يغير به ما حوله، وعاجز في نفس الوقت عن التأقلم في العالم الذي لا يقبله. لا أحد يمكنه أي يوقف المضاربات غير المشروعة، القائمة على النهب والسرقة، والتي تمثلها العمارة التي تشبه الفراشة، المشروع المعماري الضخم لأحمد مجد في مراكش، ولا أحد يرغب في أن يضيف مسحة من الجمال على مشروع أبي رقراق في الرباط بتبني فكرة بناء قوس هائل يربط بين ضفتي النهر، وهي الفكرة التي كان أسرَّ بها ياسين لأمه بهية، في وقت ما قبل مماته. تستوحي الرواية عنوانها من هذين المشروعين المتناقضين: القوس، حلم الإبداع المثالي، والفراشة، المشروع التجاري البشع ذي التسع طوابق في قلب مراكش.
بالرغم مما وعدت به مقدمات الرواية، فإن انتحار ياسين لم يحدث تغييرا جذريا في حياة يوسف ولا هو سمح له بأن يكتشف ابنه ويسبر أغواره. فيوسف، وفي غياب قضية يتبناها بحماس، لا يجد ما يخفف عنه قلق وحدته وخيباته إلا العلاقات النسائية في عالمه المنعزل عن الناس، في فضاءات حميمية، أو على طاولات المطاعم، حيث تشاركه فاطمة الصداقة الإنسانية الخالصة، وتمنحه ليلى الحب واللذة والحنان، بدون مقابل.
وحتى باخوس، القضية الجديدة التي يتبناها، لا علاقة بياسين، بل هي منحته فرصة تصالحه مع أبيه. في سنة 1982، سُرق تمثال باخوس (إله الخمر) من وليلي، المدينة الرومانية التي تبرز الرواية بعدها الأمازيغي وتجدُّرها في التاريخ المحلي بشكل غير مسبوق في الكتابات المغربية. ووليلي هي منبع يوسف، جذوره، حيث توجد على مقربة من بومندرة، القرية التي تنحدر منها أسرته، آل الفرسيوي، والتي كان غادرها محمد الفرسيوي، لعيش هجرة طويلة إلى ألمانيا، تزوج خلالها من الألمانية ديوتيما، أم يوسف، ثم يقرر بعد ذلك العودة إلى منطقته لإقامة مشاريع تنموية بما كان جمعه من مال. كان مشروع محمد يحمل في ثناياه الرغبة في الانتقام من الشرفاء الذي ظل يكن لهم، من موقعه كريفي، عداءا مترسخا. ووفرت له إقامته في الخارج الإمكانيات المادية ليصفي حساباته القبلية عن طريق مشاريعه التي سمحت له بأن يتفوق على أعادئه الشرفاء في مولاي ادريس، عقر دارهم. لكن هذه المشاريع تفشل، ويصبح محمد بعد أن تنتحر زوجته ديوتيما، ويفقد هو بصره، مرشدا سياحيا في وليلي. وظل الفرسيوي يحمل سر اختفاء تمثال باخوس، والذي كان اتُّهم بسرقته. اكتشف يوسف أن التمثال الذي سُرق من وليلي معروض في شقة تقع في عمارة الفراشة بمراكش يوم حفل التدشين التي كان أقامها أحد الأثرياء الأوربيين. وبالرغم من أنه سعى إلى التنديد بالسرقة وإخبار الشرطة بالأمر، إلا أن التمثال يختفي ثانية، وتستمر السرقة الناجحة لباخوس، بدون أن تسترجعه وليلي. وها هو يوسف يفشل في قضيته الجديدة، التي تبناها بعد موت ابنه، والتي، وبالرغم من أنها سمحت له بأن يجلي الغموض عن جوانب من حياة أبيه، فهي في نفس الوقت أكدت له مرة أخرى عجزه عن إصلاح عالمه الفاسد.
يتغير الأمر في نهاية الرواية، نسبيا. في صفحاتها الأخيرة التقى يوسف صدفة بمسافر من بلدته، تعرف عليه في المطار، والذي أخبره بأنه كان يعرف ياسين، وضرب له موعدا في مراكش ليعرّفه على صديق لإبنه. وسخّر أخيرا يوسف مجهودا لم يبذله في السابق لمعرفة التفاصيل التي سبقت نهاية مأساته العائلية. وعوض الحصول على معلومات عن ابنه، عاين يوسف إرهابيا آخر وهو يسعى لتفجير حزامه المدمر، وعندما يندفع نحوه لصدِّه عن تنفيذ عمليته، ، بدون جدوى، يكتشف أن الإرهابي الجديد هو عصام ابن صديقه إبراهيم.
تعكس هذه الأحداث الوضعية القاتمة لمجتمع ينمو بدون روح، في غمرة فساد عام، وعائلات تتفكك، وعلاقات غير مكتملة، ومشاريع فاشلة لإحياء تراث قديم، وسلسلة طويلة من الانتحارات اليائسة، كل ذلك يحدث والقنابل البشرية تحوم في هذه الأجواء الداكنة تَعِد بالانفجار في أي لحظة. تنجح الرواية في أن تبني هذه الأجواء، وتتمكن من أن تقحمنا فيها وفي عالم جيل بداية الاستقلال المحبط، مكررة بذلك الموضوع السائد في الروايات، منذ الستينات بالنسبة للرواية العربية، موضوع الأحلام بغد أفضل والتي تتكسر على صخور الواقع العنيد. الجديد هو الإرهاب، والذي يظهر في صفوف أبناء حقبة الهزائم. لكن الجيل الجديد، جيل ياسين، الذي يرث خيبات آبائه، لا يقف عند مستوى الإحساس العاجز بالفشل، بل هو يتحدى واقعه عن طريق الفعل، الفعل الإرهابي، والذي يظل مع ذلك، فعلا بلا معنى، عاجز هو بدوره عن أن يغير ذلك الواقع الفاسد الذي يظل أقوى من معارضيه، والذين مع ذلك، يستمرون في السعي إلى تغييره عبثا جيلا بعد جيل في دورات سيزيفية لا تبدو نهاية لها.
ماذا تضيف القوس والفراشة كنموذج لنص روائي متخيل، لفهمنا نحن الذين نشتغل في حقول العلوم الاجتماعية للأسئلة التي نشترك في طرحها مع الرواية؟ إن هناك أرضية سياسية وسوسيولوجية وتاريخية موثقة بشكل دقيق، تمتلئ بها صفحات الرواية: التوسع العمراني للمدن، تاريخ وليلي وفضاءاته، سرقات الآثار، موسيقى الشباب … وهذه كلها مجلات ومواضيع لا نعثر لها عن أي أثر في الكتابات العلوم الاجتماعية في المغرب. لكن تميُّز العملية الإبداعية لا تعني هذا الجانب، بل تكمن في خلق شخصيات متخيَّلة، تعايش أحداثا هي مزيح من التاريخ والخيال، وتتحرك في فضاءات نعرفها، وأخرى تختلقها الرواية اختلاقا لكنها تتحول في أذهاننا إلى واقع محتمل، ممكن، بل هو أكثر وضوحا من الواقع غير-المتخيَّل. إن هذا العالم المتخيَّل لا يكتفي فقط بملأ الفراغات التي يخلفها التوثيق الناقص بالضرورة، ولكنه وهو يحاور العالم الذي نعيشه بتلقائية في حياتنا اليومية، أو العالم الموثَّق، أي عالم العلوم الاجتماعية، يلوِّنه بألوان جديدة تكسبه معاني حتى وإن كانت من وحي الخيال، فهي في نهاية الأمر تفسح المجال للغوص في أعماقه، وتسمح بالربط بين شخوصه وأشيائه المشتتة، وتخلق مع ذلك معنى، أو معاني، حتى ولو كانت التجربة تسعى إلى منح المتعة لحظة عملية القراءة وليس بهدف تحقيق معرفة تعترف بمشروعيتها الوثائق.